كيف نفهم الحب بالعالم الرقمي من خلال قصص الفلاسفة؟
بقلم: بثينة عبد العزيز غريبي
24 ساعة حب على السوشيال ميديا!
النشرة الدولية –
في الحب الرقمي يجلسون أمام الشاشة وبكبسة زر يمرّرون فقط ما يريد الآخر أن يعرف عنهم وعن مشاعرهم- CC0
مسلّ جدّا الفيسبوك في الرابع عشر من شهر فبراير من كل سنة: فجأة كمّ من الحب يتدفق في أشكال مختلفة من التعابير فتسيطر عدوى الأغلبية في احتفالها بهذه المناسبة.
تكسو الورود والصّور الجميلة كل الصفحات الاجتماعية وكلٌّ على طريقته ينظِّر ويدعو للحب. إنها الأربع والعشرون ساعة حب على السوشيال ميديا تثير فضولنا إلى معرفة: ماذا لو كان بيننا فلاسفة القرون السابقة؟ كيف سيتفاعلون مع هذا الحدث على مواقع التواصل الاجتماعي؟
لقد اعتاد الناس العيش في حياتين، صورتين، عالمين مختلفين تماما. حياتهم داخل العالم الافتراضي والحياة خارجه.
يجلسون أمام الشاشة وبكبسة زر يمرّرون فقط ما يريد الآخر أن يعرف عنهم وعن مشاعرهم. لنتفق، أوّلا، أن الإشكال لا يكمن في التقنية أو المحمل الإلكتروني.
كما أنّه لم يعد مسموحا تحميل التقنية والرقمي عموما ذنوب عجز وجهل الإنسان في التعامل معها وعجزه أيضا عن إخضاعها لحاجاته دون أن تخضعه لإرادتها، أي التقنية.
يقول الأستاذ في العلوم الإنسانية الرقمية ميلاد الدويهي الذي أعلن أنه لا وجود لإنسان جديد فقط هناك تقنية جديدة يستوجب على هذا الإنسان التصالح معها.
فالإنسان يتحرّك بنفس التّركيبة النفسيّة في العالم الافتراضي أو الحقيقي فقط في العالم الأوّل له أكثر من فرصة في التّلون والكذب وممارسة النفاق الاجتماعي من منطلق القدرة في صناعة وتأليف قصة مختلفة عن حياته.
الملاحظ أن الكم الفائض من الحب هو دليل عطش ما للحب. فلما يبالغ الإنسان عن التعبير عن إحساس ما فهو يقصد تغطية نقص ما.
وهذا الكلام مؤكد من فرويد إلى لاكان. هناك من يتذمر من هذا النفاق الذي يملأ مواقع التواصل الاجتماعي ولكن ما يحصل واجهة لإنسان يريد فعلا الحب ويمنعه عنه الواقع. وهناك من يدخل في مقارنات بين ما يعرف بالزمن الجميل واليوم في ظل الرقمنة.
وكأنه يوجد حب حقيقي وحب رقمي. إن الزيف موجود في الواقع. كانوا في السابق يعبرون بالرسائل التي تصل بعد أيام الى أصحابها. صار اليوم التعبير بالمسنجر والواتساب وغيرها من مساحات إرسال هذه الرسائل.
لقد أنتج العقل البشري ما ييسر تفاصيل حياته اليومية. ولكن لم ينتج إنسانا جديدا بمعنى أن الإنسان يتحرك وفق نفس المنظومة القيمية والأخلاقية. الفارق الوحيد أن حياة الفرد لم تكن مفتوحة بتفاصيلها التافهة والمهمة على المجموعة. فيظهر موضوع الحب مثلا ممجوجا لكثرة التعبير عنه.
أليست مثلا إشكالات الحب ذاتها من قصص الفلاسفة في الواقع إلى قصص التندر في الافتراضي؟ هل فعلا يوجد فرق بين الحب في الزمن الواقعي والحب في الزمن الافتراضي، بين الحب في القرون السابقة والحب في القرن الحادي والعشرين؟ هل تغيرت طريقة تفكير الانسان المعاصر في الحب في العصر الرقمي؟ هل نحن أمام إنسان جديد أو فقط تقنية جديدة سمح لها الإنسان بالتحكم فيه؟
لقد تخلت فيرمنا عن فلورنتو بسبب السّلطة والمال وركضت خلف الطبيب جفينال الغني والمرشح لمنصب سياسي. سلوك فيرمينا/ الشخصية كما رسمها غابرييل غارسيا ماركيز منذ عقود من الزمن في روايته الحب زمن الكوليرا، يعكس سلوك الإنسان حين يجد نفسه بين كفتي المال والعاطفة، بين العقل والقلب فتكون الاستجابة للعقل الذي يعمل كجرس يذكر بالمصلحة أو الحاجات الأساسية التي على الإنسان إشباعها أوّلا. ذاك الذي تكلم عنه ماركيز قبل عقود، قبل الهبّة الرقمية.
ما الحب؟
هل نستطيع فعلا الإجابة عن سؤال ما الحبّ؟ إنه بالضبط مثل سؤال ما السعادة؟ هل الحب هو ما تكلم عنه ابن حزم في طوق الحمامة حين قال: “الحب – أعزك الله – أوله هزل وآخره جد، دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة، وليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عز وجل”.
ما الحب؟ هل يحتمل الحب مقاربة تاريخية؟ ما حقيقة الحب العذري والحب الإباحي، هذه المفاهيم التي قدمها لنا الشعر الجاهلي مع عذرية جميل بن معمر أو إباحية عمر بن ابي ربيعة؟ ثم لماذا التساؤل عن ماهية الحب إذ يكفينا فهم ماهية الانسان حتى نفهم محّركاته للحياة وضمان بقائه ومن بينها الحب.
نندفع نحو الآخر لأجل إشباع حاجات معينة ورغبات نبحث عن تحقيقها وهي حاجات قد لا تكون بالضرورة عاطفية.
يقال هذا “حب المصالح” وهذا التوصيف مضحك للغاية. فلا يوجد أيّ حركة بشرية نابعة عن شعور أو عن عقل، لا تهدف إلى مصلحة معينة.
نحن نأكل حتى نحيا بصحة جيدة. نحن نعمل لكسب المال. نحن نحب لأننا نبحث مثلا عن استقرار ما.
قد ينطلق الحب تلقائيا ولكنه سرعان ما يُعجن حسب حسابات معينة ولو استعملنا لغة الرقمي فذلك وفق برمجيات معينة.
قد نكون مخطئين في ربط الحب بالتلقائية لو عدنا إلى لاكان وحديثه عن أن الإنسان يسقط من خياله على الطرف الآخر فيتمثل فيه انتظاراته من هذه الحياة.
يتحرك الإنسان في اتجاه الطرف الآخر حمّالا بصور معينة منها قصص حب روميو وجولييت، قيس وليلى عنتر وعبلى وجميل وبثينة.
وقد ينسى البعض هذه الحكايات لتحلّ محلها القصص التي تقتحمنا من خلال مواقع التواصل الاجتماعي كأنجلينا جولي وبراد بيت وغيرها من قصص تصنعها الصورة على المواقع الافتراضية.
سيمون دي بوفوار استبقت الرقمنة بمفهوم الحب العرضي؟
لقد جُنّ نيتشه بسبب سالومي التي رفضته. وربما لو كان بيننا نيتشه اليوم لاستخدم على طريقته الصفحات الاجتماعية.
أمّا أفلاطون فدافع عن الحب من طرف واحد واعتبره أسمى درجات الحب لأن المحب لا ينتظر مقابلا من محبوبه. والفضاء الرقمي ينقل يوميا مئات الحالات من هذا القبيل.
دافعت سيمون دي بوفوار عن حريتها من خلال الحب. وحرصت على أن تخلّص نفسها من كل تبعية للآخر فابتدعت مفهوم “الحب الأصيل” وبدأت علاقتهما بعقد الحب العرضي وحب الضرورة…
أي أن تظل علاقتهما مفتوحة في إطار حب الضرورة أما الحب العرضي فهو المغامرات العاطفية. وكان الشرط لإنجاح ذلك هو الصراحة والوضوح.
خلصت دي بوفوار من هذه التجربة إلى أنه لا يمكن أن تكون الذات حرة إذا لم تحترم حرية الذوات الأخرى وكان هذا منطلقها لإرساء تصوّرها عن الحب الأصيل وحاولت من خلال كتابها “الجنس الآخر” أن تكسر نمطية التفكير في أن الحب هو غاية المرأة وهي جعلت من الحرية غاية المرأة.
وهي تعاكس في ذلك ما ذهب له بورديو في تحليله للهيمنة الذكورية إذ إنه اعتبر أن الحالة الوحيدة التي تقبل فيها المرأة بالهيمنة: الحب.
وإشكال الحرية هو من الإشكالات التي تجعل البعض يرفض الحب والارتباط خاصة أنه مع تطور وسائل الاتصال، تعددت أشكال القيود من المراقبة الفيسبوكيّة إلى التفاعل بالمسنجر الذي يجعل من الآخر رهين رسائل هو مطالب بالإجابة عنها.
كل هذا تقييدٌ لحركة الإنسان وسَجْنٌ له داخل عالم الطرف المقابل إلى أن يتحلّل الحب مع مشاكل روتينيّة ربّما نحتاج هنا إلى تنظير سيمون دي بوفوار عن الحب.
لنعد الآن إلى علاقة حنة أرندت الطالبة، بأستاذها الذي انبهرت بأفكاره لا لتكون في تبعية له وإنما صنعت هويتها الفكرية المستقلة عن النازي هايدغر.
ورغم زواجها فيما بعد بشخص آخر فقد ظلت هذه المشاعر حية داخلها وحية داخله حتى إنه ذات مرة استأذن من زوجته لتتركه على انفراد مع حنة أرندت. وقد قرأنا في كتاب المراسلات بين هايدغر وحنة، أكثر من رسالة بين هذه الأخيرة وزوجة هايدغر ألفريدا…
هذه عينة صغيرة من الكثير من قصص الحب في حياة الفلاسفة ونخرج منها بملاحظات أولها أن الحب غير مفصول عن الفكر وأن الحب ممارسة للحرية ومصالحة مع الذات في ظروف تكون أحيانا مستحيلة وأحيانا أخرى ممكنة.
وهي نفس الفلسفة المتواصل اليوم ورغم ما يزعمه البعض أو لنقل الأغلبية، عن نهاية الحب زمن التندر وإقامة علاقات عاطفية على مواقع التواصل الاجتماعي.
يكفي هاتف ذكي وتطبيقات جيدة حتى تتحقق شبكة من العلاقات للفرد الواحد. ربما الرقمي ضمن عوامل السّرعة في التواصل ووسّع إمكانيات التواصل ولكنه لا يمكنه أن يتحكم في عواطف وردود أفعال الإنسان حتى في مسألة الحب.
ففي نهاية الأمر كل إنسان يذهب إلى العالم الافتراضي مجهزا بانتمائه وعائلته وثقافته وميولاته والأشياء التي يكرهها أو يحبها ويقوم باستثمار التقنية ليترجم كل هذه المشاعر والانفعالات والعواطف بأساليب أكثر حداثة، وحتى إن دفعته التقنية بمنطق التقليد في العالم الافتراضي فإنه سرعان ما يستفيق من غيبوبته.
قد تبدو الأمور مبالغا فيها ومرضية ولكنها لا تحسب على التقنية بقدر ما هي مرتبطة بشخصية الإنسان.
أن نتكلم عن الإنسان والحب في عصر الرقمنة لا يعني أنه يوجد إنسان جديد مختلف عن الإنسان القديم بمعايير وأخلاقيات وأخلاق إنسانية مختلفة وإنما كيف نصالح بين الإنسان بإرثه الثقافي مع التقنية التي صارت فضاء للاجتماعية والديناميكية.
كالسابق كاليوم كالغد، يظل الإنسان ينظر للحب من نافذة: الشغف، الاحتواء، الإثارة والرغبات الدائمة والمتجددة.