17 سنة على اغتيال رفيق الحريري: عود إلى بدء!
بقلم: فارس خشان

النشرة الدولية –

قبل دوي تلك العبوة الناسفة في 14 شباط/فبراير 2005 كان لبنان أمام مفترق طرق: إمّا يرضخ لهيمنة النظام السوري الشاملة، وفق تجلّيات التمديد القسري لرئيس الجمهورية أميل لحود ونوعية الحكومة التي ترأسها الرئيس عمر كرامي، في ضوء هذا التمديد، والإمعان في نهج عزل لبنان عن مداه العربي والدولي ليكون مجرّد ساحة ابتزاز، وإمّا ينتفض موحّداً قواه ومستنفراً طاقاته، من أجل إنقاذ نفسه، بالذهاب الى انتخابات نيابية مقررة في أيّار ( مايو ) 2005 على إيقاع الأبعاد الجيو-استراتيجية التي حملها القرار 1559 الذي كان قد أصدره مجلس الأمن الدولي، في 2 أيلول(سبتمبر ) 2004.

الرئيس رفيق الحريري، هدف العبوة الناسفة الضخمة التي زلزلت العاصمة اللبنانية، كان قد حسم خياره لمصلحة “التحرير”، على الرغم من معرفته المسبقة بحجم المخاطر التي يعرّض نفسه لها إن اعتمد هذا المسار، إذ إنّه كان قد تلقى تهديدات وسيناريوهات تحاكي عملية اغتياله وتلمّس نماذج ميدانية تمثّلت، بداية بقصف “أمني” لمقر تلفزيون المستقبل في 15 حزيران(يونيو،) وتجسّدت، لاحقاً بمحاولة اغتيال النائب مروان حماده، في الأوّل من تشرين الأوّل(أكتوبر) 2004.

ولم يكن الحريري في اعتماده هذا الخيار “التحريري” مغامراً بل مضطراً، إذ إنّه توصّل، بفعل ما راكمه من تجارب وخبرات وخيبات ومعلومات، إلى خلاصة نهائية: لا معافاة مالية-اقتصادية ممكنة من دون سيادة وطنية ناجزة.

في واقع الحال، إن رفيق الحريري، ومنذ نيسان (ابريل)2003، أدرك أنّ السيناريو الذي اعتمدته اليابان وألمانيا وحقّق لهما نجاحاً اقتصادياً مبهراً، بعد احتلالهما في نهاية الحرب العالمية الثانية، وكان يمنّي النّفس بتطبيقه في لبنان، غير ممكن على الإطلاق.

في نيسان(أبريل) هذا، وفيما كان الحريري، يحضّر البنية الوطنية للإلتزام بموجبات مؤتمر باريس-2 الهادف الى تحصين الأوضاع المالية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد، إنقضّ الرئيس السوري بشّار الأسد فأمر بإسقاط الحكومة القائمة لمصلحة أخرى شكّلتها أجهزة مخابراته، على أسس أدرك الحريري أنّ من شأنها ليس نسف كلّ ما جهد من أجله في أنجح المؤتمرات التي انعقدت من أجل لبنان، فحسب بل إقحام البلاد في حروب الإقليم وصراع محاوره التي انطلقت من العراق، أيضاَ.

إنطلاقاً من هذه المحطة، راح الحريري ينتظر اللحظة المناسبة ويجمّع القوى لملاقاتها، بما لا ينعكس سلباً على الاستقرار الأمني، من أجل “تحرير” لبنان من سطوة النظام السوري، لأنّ البلاد كلّها، في حال بقيت الأمور عليه، سوف تُلاقي مصير “بنك المدينة” الذي تحكّم به وبموارده وخيراته ما سمّي يومها “النظام الأمني اللبناني السوري” في مصطلح كان يهدف الى تجنّب استعمال المصطلح الحقيقي: الاحتلال السوري وعملائه.

ولكن الحريري لم يستطع أن يكمل “مشواره”، فقد كان ينتظره على مفرق السان جورج سليم عيّاش و”اخوانه” ضمن واحدة من أخطر المجموعات الامنية التابعة لـ “حزب الله”، حليف نظام بشّار الأسد.

وما سعى إليه الحريري في السنتين الأخيرتين من حياته حققه باستشهاده، فخرج الجيش السوري ومخابراته من لبنان، ولكن بطريقة “ملغومة”، إذ تمّ على طريقة التسلّم والتسليم بينه، من جهة وبين “حزب الله” من جهة ثانية.

وما أشبه حال لبنان في 14 شباط (فبراير) الحالي بذاك الرابع عشر من شباط 2005، وكأنّ الكون أكمل دورته ليعود الى ما كان عليه قبل سبع عشرة سنة: احياء خليجي-عربي-دولي للقرار 1559، وسط تأييد سياسي وشعبي داخلي، وآمال تغييرية في الانتخابات النيابية المقرّرة في أيّار (مايو) المقبل.

والأهم أنّ الخلاصة التي انتهى إليها رفيق الحريري ودفعته الى مسار “تحريري” أنتج اغتياله عادت الى القناعات، بقوة: لا إنقاذ ممكناً من دون سيادة الدولة.

القرار 1559 كان قد رسم معالم هذه السيادة: خروج الجيش السوري ومخابراته من لبنان ونزع سلاح “حزب الله”.

وكان اغتيال الحريري، على الرغم من أنّه أدّى الى جلاء الجيش السوري ومخابراته، قد طوى، شيئاً فشيئاً، على وقع سلسلة اغتيالات لاحقة شملت القوى التي اكملت المسيرة، كلّ كلام عن استكمال تنفيذ القرار ١٥٥٩، حتى بات ذكره لاحقا كأنّه “خيانة عظمى”.

ومع ذلك، فإنّ الخلاصة التي ترفع من شأن المسألة السيادية التي كان قد توصل اليها رفيق الحريري، كانت تطل برأسها، بين حين وآخر.

آخر محاولة إنقاذيّه على هذا المستوى قادها الرئيس ميشال سليمان، من خلال دفعه طاولة الحوار الوطني، الى تبنّي “اعلان بعبدا”، إذ إنّ الرئاسة اللبنانية وأطراف وطنية عدّة كانت مقتنعة بأنّ الأوضاع المالية والإقتصادية والإجتماعية باتت، أكثر من أيّ وقت مضى، متّصلة اتصالاً جوهرياً بموقع لبنان في المعادلة الإقليمية، وتالياً فإنّ “النأي بالنفس” عن حروب المنطقة وصراع محاورها، بدعم عربي ودولي، يوفّر له ما يلزم من وقاية.

 

لكنّ “حزب الله”، ومع القرار الذي اتخذته إيران بالدخول العسكري الى سوريا دعماً لنظام بشار الاسد، انقلب عليه، وحين رفض سليمان التسليم بهذا الانقلاب، تعرّض لهجوم استهدف اغتياله معنوياً، ليكون “عبرة لمن يعتبر”.

ومنذ تلك اللحظة حتى الأمس القريب، جرى اهمال خلاصة رفيق الحريري، وتوهّم الحكّام أنّ منع الكارثة ممكن، في ظل سيادة مقتنصة ومنتقصة، حيث وعود الدولة لا تساوي قيمة الحبر الذي تكتب به.

وقد ارتكب من سار في هذا النهج خطأ استراتيجياً كبيراً كلّف لبنان وشعبه الكثير.

لم يدرك هؤلاء أنّ أحداً لم يقم علاقات عميقة مع النظام السوري ومع الجمهورية الاسلامية في إيران ومع “حزب الله”، كما أقامها رفيق الحريري، ولكنّه، بالمحصلة، حين وجد أنّ بلاده التي من أجلها فعل ما فعل، في خطر الانهيار، أعاد تموضعه، فالسياسة، بالنسبة اليه، لم تكن هدفاً قائماً بذاته، بل وسيلة يمكن ان تقوده الى التسليم حيناً والى المواجهة حيناً آخر، من أجل تحقيق الهدف السامي: خلاص لبنان وشعبه.

إنّ الأسئلة التي تطرح نفسها مع حلول الذكرى السابعة عشرة لاغتيال رفيق الحريري، وفي ظل عودة الزمن اللبناني الى الحال التي كان عليها في 14 شباط 2005: هل استعادة الدولة وقرارها وعلاقاتها، بما أنّها المدخل الأكيد الى الخروج من الجحيم، ممكنة؟ أو إنّ معادلة الترهيب التي سبق أن فرضت نفسها، اغتيالات وغزوات، قادرة على أن تفرض نفسها مجدداً، من دون أيّ اهتمام بوجودية لبنان وحاجات شعبه؟ وهل إنّ المجتمع الدولي-ومن ضمنه المدى العربي والخليجي-يمكن، في حال افتقاده الى قدرات لبنانية متعاونة، أن يعود الى الوراء تاركاً لبنان لمصيره، وفق السيناريو الذي انتهت إليه “المحكمة الخاصة بلبنان”، بحيث جرى الإكتفاء بتحويلها الى منبر لحقيقة مجتزأة، بعدما كان قد أريد لها أن تكون مرجعاً لإنهاء عصر إفلات كبار المجرمين من العقاب؟

إنّ تقديم الأجوبة عن هذه الأسئلة مسألة معقّدة للغاية، لأنّ اغتيال رفيق الحريري، ولو مضت عليه سبع عشرة سنة، لا يزال ماثلاً في الأذهان، وتالياً ما من أحد، على الأرجح، يريد أن يسلك طريقه، فتكريم الشهداء في لبنان، في كثير من الأحيان، قد لا يعني أكثر من تذكير النفس بوجوب عدم السير في الطريق الذي غُدر بهم فيه!

زر الذهاب إلى الأعلى