بوتين وبايدن وأوكرانيا: أوروبا القرن التاسع عشر
بقلم: رفيق خوري
النشرة الدولية –
أوروبا على حافة حرب بعد 77 عاماً من نهاية الحرب العالمية الثانية ثم الحرب الباردة. ولا أزمة في أي مكان تشغل العالم مثل الأزمات في القارة العجوز التي حكمته قبل قرنين. الضحية هذه المرة هي أوكرانيا التي ليست بلداً صغيراً، لكنها تواجه مصير البلدان الصغيرة التي تحاول ممارسة سيادتها في جيرة صعبة خلال صراع الكبار. واللاعبان هما روسيا وخلفها الصين، وأميركا ومعها أوروبا واليابان. الرئيس فلاديمير بوتين يعيد أوروبا إلى القرن التاسع عشر وصراعاته. والرئيس جو بايدن يريد الحفاظ في القرن الحادي والعشرين على ما وصلت إليه أميركا من نفوذ ودور في القرن العشرين. لكن الفارق أن بوتين مستعد لاستخدام القوة في أوكرانيا، كما فعل في جورجيا عام 2008 وفي شبه جزيرة القرم عام 2014 وفي سوريا عام 2015. في حين يعلن بايدن سلفاً أنه لن يستخدم القوة بل العقوبات، ولن يتخلى عن دعم أوكرانيا في السيادة من دون أن يقول كما قال قبله صاحب المغامرات العسكرية الرئيس جورج بوش الابن عن أوكرانيا، إن أميركا لن تدعم “وطنية انتحارية”. الرئيس الروسي يحشد أكثر من 100 ألف عسكري على حدود أوكرانيا. والرئيس الأميركي يتحدث سلفاً عن “ساعة الصفر” في موسكو لبدء الغزو، ويحدد نوع العقوبات الأميركية والأوروبية على روسيا.
بوتين يبدو كمن ربح المعركة من دون قتال: أسعار النفط ارتفعت، وهذا ما يفيد الاقتصاد الروسي. الكرملين صار محجة لرؤساء أوروبيين. حاجة أوروبا إلى الغاز الروسي لا بديل لها في المدى القريب. والمطالب الصعبة من الغرب بالنسبة إلى الامتناع عن ضم أوكرانيا وجورجيا إلى حلف “ناتو”، وسحب القوات التي جرى نشرها في البلدان التي كانت ضمن الاتحاد السوفياتي أو في المعسكر الاشتراكي، لن تبقى بلا حصول على شيء ما. هي “غير مرضية”، كما قال له وزير الخارجية سيرغي لافروف، لكن “باب التفاوض مفتوح”. والمثال الذي يستشهد به ويحمل خطابه في جيبه لافروف هو وزير الخارجية أيام القياصرة الأمير ألكسندر غورتشاكوف القائل: “روسيا لا تغضب. روسيا تعيد تشكيل نفسها وتتأهب”. فهو استعاد لموسكو نفوذها في أوروبا بعد هزيمتها في حرب القرم أواسط القرن التاسع عشر من دون إطلاق رصاصة واحدة.
وهذا ما يأمل فيه بوتين وإصبعه على الزناد، إذ يتهم أميركا بأنها “تستخدم أوكرانيا كأداة لجرّنا إلى نزاع مسلح وفرض أقسى العقوبات علينا. ونحن مع مبدأ أنه لا يمكن لأي دولة تعزيز أمنها على حساب دولة أخرى”. شيء يعيد فيه الرئيس الروسي الذي درّبته الـ”كي جي بي” على الخداع، التذكير بالخبث الذي مارسته رئيسة الوزراء في إسرائيل غولدا مائير بالقول: “لن نغفر للعرب أنهم أجبرونا على محاربتهم وقتلهم”. وشيء يعيدنا إلى حكاية الذئب الذي اتهم الخروف بتعكير مياه النبع عليه. فما يطلبه بوتين هو ضمان أمن روسيا على حساب أمن أوكرانيا وعدد كبير من دول أوروبا الشرقية. وما يصطدم به من رفض الغرب يدفعه إلى التبصر بقول الخبير الاستراتيجي الأميركي أنطوني كوردسمان: “الحرب ليست عن إلغاء المخاطر بل عن إدارة المخاطر”.
ذلك أن بوتين يريد استعادة ما خسرته موسكو في نهاية الحرب الباردة، وتشليح أميركا ما كسبته. هو ينتقد إصرار الغرب على مد حلف “ناتو” إلى حدود بلاده بعدما ألغت موسكو “حلف وارسو” الذي أقامته مقابل “ناتو”، ويجد في الأمر تهديداً لأمن روسيا. لكن الوجه الآخر للمسألة هو: لماذا لجأت البلدان التي كانت في المعسكر الاشتراكي أو ضمن الاتحاد السوفياتي إلى عضوية “ناتو”؟ والجواب الذي يعرفه بوتين هو الخوف على أمنها وسيادتها من روسيا. خوف واقعي ملموس في جورجيا والقرم وفي شرق أوكرانيا، لا نظري افتراضي. والحل المنطقي هو تجديد “معاهدة هلسنكي” وتوسيعها، وإيجاد نظام أمني أوروبي يحافظ على مصالح الجميع. وهذا لا يمكن تحقيقه بالقوة بل بالحوار والتوازن.