حروب بمقاس المئة عام
بقلم: مصطفى أبو لبدة

النشرة الدولية –

في وقت سابق من الأسبوع الحالي، وفي ذروة انشغال العالم بالمضامين والسيناريوهات المحتملة للحشد الروسي على حدود أوكرانيا، تسلمت إيران دفعة نقدية من الحساب المفتوح لملف مفاعلها النووي، مقدارها 21 مليار دولار.

لا علاقة مباشرة بين هذه الدفعة النقدية المندرجة ضمن محادثات فيينا لإعادة إحياء اتفاق النووي الإيراني 2015، وبين أزمة أوكرانيا، إلا صلة التوقيت بين قضيتين توصفان بأنهما من فئة ”حروب المئة عام“..

القضايا التي يجري تصنيعها وإدارتها لتكون مبررات تأزيم يتجدد كلما استحقت مراجعة النظام الإقليمي، فيها تتم الصفقات في المنطقة الرمادية، وتمرّ بأقل قدر من الضجة، مع سهولة تزوير الأسباب لإخفاء التواطؤ والمقايضة.

في الإعفاء من بعض العقوبات التي كانت فرضتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب على طهران، أتاح لها الرئيس جو بايدن، الآن، 21 مليار دولار من خلال البنوك الصينية، مضافًا لها حوالي 7 مليارات دولار من الأموال المجمدة في بنوك كوريا الجنوبية.

وبدلًا من الإقرار بأن هذه الأموال هي سُترة الإنقاذ المالي التي رمتها واشنطن للاقتصاد الإيراني، حتى قبل الانتهاء من المفاوضات، قال رئيس الغرفة الإيرانية الصينية المشتركة، مجيد جريري، إن هذه الأموال لا تعدو كونها احتياطيات إيرانية جرى تحويلها من بكين.

وفي ظل انشغال الماكنة الدولية بتقليب السيناريوهات في أوكرانيا، بما في ذلك احتمالات أن تنفلت إلى حدّ حرب عالمية ثالثة، تسّرب موضوع تحرير المحجوز من الأموال الإيرانية سرًا دون ضجة، وكان إشارة راجحة إلى أن ”النووي الإيراني“ دخل المرحلة النهائية التي ستعاد فيها صياغته ليبقى قوة تحريك طويلة المدى في النظام الإقليمي: يظل ويدوم مصدر ترهيب لدول الجوار، ومبرّرًا لإدخال الشرق الأوسط في دوامة انتشار النووي عندما يحين الوقت.

وخروجًا من التفاصيل الصغيرة المتوترة التي قد تُعشي البصر، فإن الاستقصاء النقدي لا يترك مجالًا للجدل في كون القضيتين، النووي الإيراني وأوكرانيا، هما من سوّية الأزمات التي جرى تصنيفها والتعامل بها لتكونا أقرب ما يكون إلى وصف حروب المئة عام.

في كلٍ منهما عناصر تفجير محتمل يمكن أن تنفلت بمواجهات عسكرية يصعب التحكم بها، لذلك يجري توظيفها في المنعطفات التي يراد منها تكريس النظام الإقليمي الراهن أو إعادة تشكيله.

خُذ ما حصل في الأزمة الأوكرانية قبل يومين واستعرض فيه الرئيس الروسي حرفته في إدارة أزمة هي الأكبر منذ انتهاء الحرب الباردة.

في ذروة حشد على الحدود الأوكرانية يصل 130 ألف عسكري مرفوقًا بمناورات عسكرية على الحدود الأخرى، ومسبوقًا برسائل حددت الخطوط الحمراء التي يمكن لتجاوزها أن يشعل حربًا لا تريدها واشنطن، ولا قدرة لموسكو عليها، أعلنت روسيا عن انسحابات لم تقتنع بها دول حلف الأطلسي، ليبقى الوضع رهينة الأوراق المغطاة التي يحتفظ بها بوتين وهو ينتظر تنازلات مقابلة تتجاوز أوكرانيا لتطال الأمن الأوروبي برمته.

بعض الأوراق المستورة في لعبة روليت المسدسات الروسية المحشوة، كانت -وما زالت- أن يجري الاستعاضة عن دخول روسيا لأوكرانيا بتفجيرات في مناطق أخرى بينها الشرق الأوسط. وهي احتمالات تمتلك قابلية المناقشة والتأويل والبناء عليها. فقد شهد الشرق الأوسط خلال الأسابيع القليلة الماضية مستجدات وازنة، تترك المجال واسعًا لتوقع المزيد القادم من الارتدادات التي تستدعي التحوط أو الاستنفار.

يُفيد في سياقات المقاربة بين وظائف الأزمة الأوكرانية، والملف النووي الإيراني، كملفات يراد لها أن تكون طويلة المدى، وعابرة للحدود، استذكار أن أزمة أوكرانيا عندما بدأت، العام 2014، كانت جزءًا مما سمي بـ“الثورات الملونة“ وهي حراكات الشوارع التي أخذت مداها في الشرق الأوسط بما عُرف لاحقًا بـ“الربيع العربي“.

في الإقليمين اللذين رعت فيهما الولايات المتحدة موجة تحريك الشوارع تحت مسميات ودواعٍ مختلفة، شرق أوروبا، والشرق الأوسط، خسرت موسكو الكثير مما لم يفارق مُخيلة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وهو يستعرض الآن في أوكرانيا قدرته على الثأر، باستثمار وَهَن عزيمة الرئيس الأمريكي جو بايدن، وارتباكه الذي تمثّل صارخًا في مشهد الانسحاب الفوضوي من أفغانستان، وفي عدم اليقين من جدوى الانسحاب المفترض من الشرق الأوسط.

وهو وإن كانت منطقة الشرق الأوسط لم تدخل حتى الآن مستديرة السيناريوهات المشبوكة مع الأزمة الأوكرانية، إلا أن الطريقة التي يتصرف بها الرئيس الروسي، ويبرع فيها بإخفاء خطوته التالية، سمحت بالتكهّن بسلسلة من التعقيدات المنظورة في الشرق الأوسط والتي يمكن أن تكون جزءًا من أوراق الاحتياطي الروسي.

ففي سوريا وليبيا، مثلًا، أوضاع على الأرض تشكّل أزمات إقليمية ومحلية، من النوع الذي يستطيع فيه بوتين أن يربك ويقايض الولايات المتحدة، وأوروبا، داخل وخارج الحلف الأطلسي.

قد لا يكون منطقيًا تحميل بعض شواهد التأزيم في سوريا وليبيا أكثر مما تحتمل، بإدراجها ضمن السيناريوهات الروسية. لكن ما تشهده الحدود السورية الأردنية من توتر مسلح يستدعي تغيير قواعد الاشتباك مع المهربين، ومثله أزمة تشكيل الحكومة الليبية، هي أجراس تنبيه تترافق مع مناورات بحرية روسية في شرق المتوسط تنطلق من القواعد الروسية في سوريا، وتسمح لمختلف الأطراف أن تقلق، بما في ذلك تركيا التي اتخذت قرارها بأن تنضوي أو تتعايش مع نظام إقليمي جديد يجري بناؤه في الشرق الاوسط.

قبل حوالي 20 سنة، بدأت الولايات المتحدة الترويج لمشروعٍ تُحرّر فيه أوروبا من الخضوع لسلاح الطاقة الروسي، وذلك باستبداله بخطوط غاز قادمة من الشرق الأوسط تعبر سوريا وتركيا.

وقيل بعد ذلك إن معارضة النظام السوري لهذا المشروع كانت السبب الحقيقي وراء الحرب الأهلية التي كان يراد لها إسقاط النظام في دمشق، وهو ما نجحت روسيا بمنعه عندما دخلت سوريا وأقامت من القواعد العسكرية ما تستثمره الآن في أزمة أوكرانيا.

بديل مشروع أنابيب الغاز القطري الذي كان مطروحًا في المشروع الأمريكي بأن يصل برًا إلى أوروبا، هو الآن مشروع الأنابيب التي تنقل غاز شرق المتوسط – بما فيه الإسرائيلي – إلى أوروبا. ويوم أمس الأربعاء، كان الرئيس التركي واضحًا في الإشارة إلى استعداد بلاده للمشاركة بهذا المشروع، وبحثه ضمن برنامج الزيارة التي سيقوم بها الرئيس الإسرائيلي يتسحاق هرتزوغ إلى أنقرة، الشهر المقبل.

ارتدادات الأزمة الأوكرانية على الشرق الأوسط – وهذا هو الموضوع المطروح حاليًا للتكهن والتلمس – هي بالتأكيد تتجاوز الاعتبارات العسكرية والأمنية، لتطال أيضًا قضايا حيوية ابتداءً من أسعار النفط وليس انتهاءً بأسعار القمح الذي تعتمده في أمنها الغذائي دول عربية عديدة من هذا الإقليم .

كلاهما، الملف الأوكراني والنووي الإيراني، جرى بناؤهما وتشغيلهما بأسلوب القضايا الطويلة الأمد التي يراد لها أن تكون محفزات توتر عندما يراد إعادة تركيب النظام الإقليمي في دول الجوار.

وليس خارج قواعد اللعبة أن يتزامن الملفان في ألعاب مقايضات خفية وعلنية ما دام أن اللعبة الكبرى هي نظام عالمي جديد تتقاسمه أمريكا وحلف الأطلسي من جهة، وعلى الناحية الأخرى روسيا والصين، وتحاول إيران عبثًا أن تنضم إليه رغم معرفتها أنهما لا يأخذانها بجدية، وآخر لقاء بين الرئيسين الروسي والإيراني كان غاضًا للطرف الإيراني حد الجرح.

زر الذهاب إلى الأعلى