أوكرانيا و”قصرة النملة”
بقلم: سعد بن طفلة العجمي
"الدول ليست كالأفراد فهي ثابتة والجيران فيها باقون"
النشرة الدولية –
تعني كلمة أوكرانيا باللغة السلافية القديمة الجوار أو الأطراف أو المحيط. تجد أوكرانيا هذه الأيام نفسها محاطة بجار ضخم هائل هو روسيا الاتحادية التي تحيط بها من الشرق والشمال الشرقي ومن الجنوب، (انظر الخريطة)، ويحشد الدب الروسي قواته منذ أسابيع على حدود جارته الصغيرة مقارنة بحجمه الهائل، فمساحة أوكرانيا تبلغ 600 ألف كيلومتر مربع، بعدد سكان يقارب الـ 44 مليون نسمة، بينما تبلغ مساحة جارها الروسي 17 مليون كيلومتر مربع، وبعدد سكان يقارب الـ 144 مليون نسمة.
يرى العسكريون ألا مجال للمقارنة بين القوتين العسكريتين، فروسيا قوة عظمى وأوكرانيا قوة متوسطة بل صغيرة مقارنة بالقوة الروسية.
الغرب والإعلام الغربي يصيحون ليلاً ونهاراً محذرين من غزو روسي شامل وشيك لأوكرانيا، وأوكرانيا لا تتوقع ذلك، وروسيا تنفي ذلك، لكن التحذيرات الغربية المحمومة لم تتوقف، “جاك الذيب… جاك ولده”!
أوكرانيا تريد التوجه غرباً والانضمام إلى الاتحاد الأوروبي ثم إلى حلف الـ “ناتو”، وهو الأمر الذي تراه روسيا تهديداً لأمنها القومي، بل تراه تهديداً لوجودها وترفض السماح به أبداً.
دول كثيرة تعاني مشكلات الجيران، فجمهوريات البلطيق تجد نفسها تعيش ذات المخاوف التي تعيشها أوكرانيا بسبب الجيرة مع روسيا، وإيرلندا عانت تاريخياً ولا تزال تعاني من جيرتها مع بريطانيا، كما يرى البرتغاليون أن إسبانيا تتنمر عليهم في السياسة والسياحة والاقتصاد.
مشكلات الجيرة الجغراسية (الجغرافية – السياسية) لا نهاية لها في أوروبا العجوز، أما في شرقنا العربي والإسلامي العتيد فحدث ولا حرج، فكبار السن بالكويت كانوا يقولون إن “قصرة العراق قصرة نملة”، وهم بذلك يقصدون التهديدات التي مارسها العراق الملكي والجمهوري الثورجي طوال القرن الماضي، والتي توجها صدام حسين بغزوه الكويت عام 1990.
و”القصير” باللهجة الشعبية تعني الجار، وقد جاءت من قصر المسافة، والقصرة تعني الجيرة. والواقع أن النمل كثير في منطقتنا، فقد كتب الأكاديمي الأميركي من أصل إيراني كريم سجادبور في الـ “فورين أفيرز” لهذا الشهر أن سوريا تحولت إلى جمهورية الـ “كبتاغون”، وصارت قصرتها قصرة نملة لمحيطها وبالذات للأردن الذي يخوض رجال حدوده حرباً مستمرة واشتباكات دائمة مع مهربي مخدرات أتوا من الأراضي السورية قبل أسابيع وبمساعدة رسمية، بحسب صحيفة “لوموند” الفرنسية. ولمشكلات الجيرة هذه تاريخ طويل، فقد كانت الدبابات السورية وصلت إلى جرش وعجلون خلال أحداث سبتمبر (أيلول) الأسود عام 1970، في محاولة لمساندة التمرد الفلسطيني ضد الدولة الأردنية.
وفي منطقة الخليج نعاني من جيرة “أم النمل” التي تدعم الميليشيات الولائية في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وتخرق كل قواعد حسن الجوار والاحترام المتبادل والتعايش السلمي.
وفي شمال المغرب العربي يشكو المغاربة من جيرة الجزائر التي تصدر مشكلاتها الداخلية عبر الصحراء المغربية، فتدعم تنظيم الـ”بوليساريو” الإرهابي على حساب جارتها وشقيقتها المغرب، لتخوفها من قوة المغرب المتنامية اقتصادياً، وطمعاً في منفذ على المحيط الأطلسي عبر الصحراء الغربية المغربية.
قديماً يقول العرب “الجار قبل الدار”، وفي الشام يقال “كوم حجار ولا ها لجار”، لكن هذه الأمثال والأقوال تنطبق على الفرد وليس على الدول، فيمكن للواحد نظرياً أن يغير جيرانه وينتقل إلى حي أو مدينة أو منطقة أو حتى بلد آخر، لكن الدول ليست كالأفراد فهي ثابتة والجيران فيها ثابتون باقون، وليس لأوكرانيا سوى التفاهم والتعايش مع جارها الروسي الذي هو أقرب بكثير لها من الغرب والـ “ناتو”، وليس للكويت والأردن والمغرب سوى التعايش مع جيرانهم.
وكانت الكويت عبرت عن تساميها فوق أذى جارها وشقيقها الشمالي، فعقدت قبل عامين مؤتمراً عالمياً لإعادة إعمار العراق بعدما عانى ويلات الدكتاتورية الرعناء وحروبها، وقدمت النفيس إيماناً منها بأن العراق المستقر المزدهر هو العراق الآمن بالنسبة إليها، وفي ذلك نموذج للعلاقات بين دول الجوار والتسامي فوق الخلافات والتشارك في المشاريع والتعاون الاقتصادي، ولعل أوكرانيا وجارتها روسيا تنحيان منحى التعاون والتفاهم بدلاً من التوتر والحروب.