الكويتي.. الذي ضمّد جراح بيروت
بقلم: أحمد الصراف

النشرة الدولية –

تلقيت عشرات الرسائل من أصدقاء لبنانيين وغيرهم، وقرأت ثلاثة مقالات نشرت في صحف بيروتية ولندنية كلها تشيد بما قام به فنان كويتي من نكران ذات وتضحية معجونة بإبداع وعطاء بغير حدود، وهو يحاول، كما حاول «سيزيف»، خداع إله الموت «ثاناتوس» مما أغضب كبير الآلهة زيوس عليه، فعاقبه بأن يحمل صخرة من أسفل الجبل إلى أعلاه، فإذا وصل القمة تدحرجت إلى الوادي، ليعود لرفعها إلى القمة، وهكذا إلى الأبد، فأصبح رمز العذاب الأبدي.

هذا هو سيزيف الكويت، الكاتب والممثل والمخرج العالمي «سليمان البسام» الفنان الفريد وشبه الغريب بين قومه، والذي يجسد بنظري لا منطقية ولا عقلانية الحياة الإنسانية، ولكن بسعادة، فلا يبدو أنه، كسيزيف، سيتعب أو سيشعر بالملل من القيام بعملية التوعية والتثقيف في مجتمعات أصبحت هذه الأمور الضرورية في آخر سلم أولياتها.

***

بالرغم من عمق ثقافة سليمان الغربية، وشخصيته الشكسبيرية، إلا أنه لم يستطع الانسلاخ عن محيطه، وهذا ما دفعه للقيام بالكثير من أجله، صابراً ومتحملاً، وباذلاً الكثير من وقته وجهده وماله الخاص، لفعل شيء يوقظ مجتمعاتنا من سباتها، ويضمد جراحها، ويجمع أشلاءها الممزقة. ومن هنا جاءت فكرة إنتاج مسرحية «آي ميديا» الفريدة، بتعاون مع مركز جابر الثقافي، وصندوق الثقافة اللبناني، ومهرجان نابولي الإيطالي، ولكن ظروف الجائحة منعت في حينها عرضها على دار أوبرا، فقرر نقل العرض الأول لها إلى تونس، حيث حصدت المسرحية 3 جوائز بمهرجان قرطاج الثقافي. كما عرضت المسرحية في القاهرة واختيرت بطلتها، «حلا عمران»، أفضل ممثلة، قبل أن ينقل سليمان همه لمدينة بيروت، مخططاً لنقل العرض تالياً لنابولي وبعدها لإسطنبول، ومدن أخرى!

كان عرض بيروت مميزاً، ليس بسبب الحضور غير العادي بل وأيضاً لرمزية مدينة أصبحت صامتة مثخنة بجراحها، بعد أن كانت عاصمة الثقافة العربية، وكانت بالفعل بحاجة لمن ينتشلها من آلامها ويعيد لها شيئاً من سابق رونقها، وهذا ما فعله سليمان من على خشبة مسرح المدينة في الحمرا، حيث عرضت مسرحيته «آي ميديا» ثلاثة أيام رائعة!

لم أحضر العرض، ولكن يمكنني التعليق عليه من واقع ما وردني ممن شاهدوه وبينهم نقاد، يقول أحدهم: في هذا العرض، يُشركنا البسّام بالأزمات، ويحفر في دواخلنا، ويُنزلنا إلى أعماقنا، ليكشف عن الحقائق الأساسية والجوهرية لعالم متلاشٍ، ومهجورٍ، وهشٍّ، في بلورة فنية معاصرة لـ«ميديا»، إحدى أشهر تراجيديات الكاتب المسرحي اليوناني يوربيدس (480 – 406 ق.م).

ويقول آخر: اعتمد البسام على رؤية دراماتورجية تربط أحداث المسرحية اليونانية بالعصر الحديث، معيداً بناء شخصية «ميديا» في عصر الاستبداد القائم على التكنولوجيا، والبنى المتدهورة للحقيقة في عالم رقمي، ليقدم البطلة التراجيدية كمهاجرة عربية مثقّفة، ذات نزعة رافضة لوحشية ما بعد الاستعمار، على خلاف عميق مع العالم المعاصر.

أدت «حلا» دور «ميديا»، الشخصية المحورية في المسرحية، بكل جوارحها الداخلية، فأصابت كما عادتها. وكان لسليمان البسّام حضوره الطاغي، كما بدا متيماً بنصه ودوره فإذا به ينثر على المتفرجين رؤاه المسرحية، ويتركهم يتفكرون.

***

لا ينتهي الأمر هنا، فحلم سليمان بعرض مسرحيته في وطنه لم يتلاشَ، ولكن إدارة مركز جابر الحالية، بعد أن تناوبت أياد عديدة على مصيره، اختارت التخلي عن الاتفاق الأصلي، معه بحجة أنها إدارة جديدة ولا علاقة لها بالأمر!

نتمنى تدخل من يعنيه الأمر في الديوان، ويحل هذا الإشكال البسيط مع الإدارة، ليعود سليمان لوطنه ويتمكن من عرض مسرحيته العالمية الرائعة فيه، قبل رمضان، على خشبة مسرح دار الأوبرا!

زر الذهاب إلى الأعلى