فجوة على قمة العالم والقوى الإقليمية تلعب
بقلم: رفيق خوري

النشرة الدولية –

على قمة العالم فجوة في القيادة. الفراغ الذي تركه الانحسار الأميركي الجزئي حتى الآن ليس مملوءاً تماماً بامتداد الدور الصيني والدور الروسي. و”البديل من نظام عالمي تقوده أميركا”، كما يقول روبرت كاغان من مؤسسة بروكينغز، “ليس نظاماً عالمياً سويدياً، بل عالم فوضى وخداع وصراع وسوء حسابات، ولا بد من نظام ليبرالي عالمي تبنيه أميركا”، لكن أميركا التي التزم الرئيس جو بايدن “عودتها إلى القيادة (تتزلج بين) الخندقة والتدخل”، ولم تعد العودة إلى ما قبل دونالد ترمب ممكنة، ولا أيضاً إلى أيام أوباما الذي جاء به الضيق بمغامرات بوش الابن والمحافظين الجدد، ولا بالطبع إلى ظروف جورج بوش الابن وقبله كلينتون وبوش الأب. فالعالم تغير. وأميركا تغيرت. و”سمعة أميركا ضعيفة في عالم معولم، وبايدن يواجه شركاء حذرين مشككين، وهو تحدٍّ لم يعتد عليه رؤساء أميركا”، بحسب جيسيكا ماثيوز، الرئيسة السابقة لمؤسسة كارنيغي للسلام الدولي. والصين التي يقودها الرئيس شي جينبينغ إلى “مركز المسرح العالمي” لم تكن مهتمة بالعالم، ولا كان لها وزير خارجية قبل القرن التاسع عشر. ولا هي على الرغم من إمكاناتها الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية صاحبة “قوة ناعمة” ثقافية وتعليمية تستهوي البلدان التي أدمنت ثقافة الغرب وجامعاته. أما روسيا القوية عسكرياً والمستعدة للمغامرات الخارجية من جورجيا إلى أوكرانيا وسوريا، فإن إمكاناتها الاقتصادية محدودة. وهي، في رأي روبرت كاغان، مجرد “فولتا عليا مع صواريخ”.

وهذه الحال تنعكس على القوى الإقليمية الصاعدة أو صاحبة الدور المكرس من زمان. أوروبا لم تعد قوة كونية، وإن بقيت قوة في العالم. الهند تلعب دوراً مهماً في آسيا وتواجه الصين وباكستان. دور إثيوبيا الأفريقي يضعف بسبب الصراعات الداخلية والحرب الأهلية. جنوب أفريقيا تفقد الإشعاع بعد مانديلا. وكوريا الشمالية فقيرة، لكنها مالكة صواريخ عابرة للقارات وقنابل نووية.

على المسرح العربي فراغ. مصر تبدأ باستعادة دورها العربي الرائد بعد الانكفاء أيام الرئيس السادات والرئيس مبارك. دول الخليج بقيادة السعودية تتولى قيادة المرحلة وتصنع المستقبل التنموي والرقمي. سوريا مشلولة بخمسة جيوش أجنبية ومعزولة عربياً ودولياً، وفي حرب صارت في عامها الحادي عشر بلا نهاية تلوح في الأفق. والعراق يحاول استعادة الدور، وسط عقبات داخلية وحواجز إيرانية وحاجة إلى أميركا. ليبيا في فوضى تقترب من النهاية، ثم تبتعد. تونس دخلت في دوامة صعبة بعد إجراءات الرئيس قيس سعيد الاستثنائية عبر تعليق البرلمان ورفض ممارسات ما بعد “ثورة الياسمين” لجهة سيطرة “النهضة” الإسلامية على السلطة. والسودان يعود من الثورة إلى الانقلابات العسكرية. لبنان في أزمات وصلت إلى أزمة وجودية. والبقية على قدر الحال.

الفجوة على القمة سمحت لثلاث قوى إقليمية شرق أوسطية بتكبير أدوارها، ولا سيما على المسرح العربي. أميركا تشجع السعودية والإمارات العربية ومصر على لعب الأدوار الإقليمية. كذلك روسيا والصين، لكن الأدوار ليست متكافئة بين إيران وتركيا وإسرائيل، بصرف النظر عن قوة كل منها وضعفه وعن دعم الكبار أو عدائهم. إيران تحت سلطة الملالي قوة صاعدة تجاوزت دور “شرطي الخليج” أيام الشاه. وهي تتمدد في العراق وسوريا ولبنان واليمن. تشارك في الصراعات والأزمات والحروب وتشكل ميليشيات مذهبية تابعة للحرس الثوري. الصين وروسيا تدعمانها في الشكل، وأميركا تحاول تقليص نفوذها، وهي تلعب على الجميع ومع الجميع. تعادي إسرائيل وتتحدث عن إزالتها من فوق الخريطة، لكنها، لا تطلق عليها رصاصة واحدة. طموحها أكبر من إمكاناتها في منطقة معقدة، ويعتمد على منطق غيبي. تركيا التي غادرت الشرق إلى الغرب أيام أتاتورك، تعود إلى الشرق مع أردوغان تحت عنوان “العثمانية الجديدة”. تحتل مساحة من شمال سوريا. تقيم قاعدة عسكرية في العراق وتقصف أماكن لحزب العمال الكردستاني. وتتدخل عسكرياً مباشرة وعبر المرتزقة في ليبيا، كما تطمح إلى دور في القوقاز عبر دعمها لأذربيجان في حربها مع أرمينيا. أما إسرائيل التي توسعت كثيراً باحتلال فلسطين وسيناء والجولان والضفة الغربية التي كانت مع الأردن، فإنها انسحبت من سيناء وعقدت معاهدة سلام مع الأردن واتفاق أوسلو مع منظمة التحرير، كما انسحبت من الجنوب اللبناني. والمطلوب منها حالياً هو الانسحاب من الجولان السوري والضفة الغربية بعد انسحابها من غزة. فالاحتلال مجبر على الانحسار. والتمدد صار جيوسياسياً عبر اتفاقات سلام مع عدد من الدول العربية، لكن مستقبل العالم العربي للعرب، لا لأي قوة إقليمية أو دولية.

 

زر الذهاب إلى الأعلى