التكنولوجيا الحديثة تغيّر المفهوم التقليدي للمعارض التشكيلية
النشرة الدولية –
العرب حنان مبروك –
يعدّ الإبداع التشكيلي دون غيره من الفنون، فنا “مباشراتيا” يقوم بالأساس على انصهار الفنان بكل حواسه لإنتاج عمله الفني النابع من عواطفه التي تعتبر نواة أساسية في محاكاته لمحيطه وتفاصيله بالكثير من الابتكار والتجديد، لكن هذا الفنان صار مرغما بفعل التطور التكنولوجي على مجاراة عصر التقنية بالتفكير في أشكال تفاعلية جديدة تمكّنه من إلحاق الفن التشكيلي بركب الابتكار.
باتت التكنولوجيا الحديثة وتقنياتها أمرا لا مفر من قبوله في سائر حياتنا، وبينما التحقت أغلب القطاعات الفنية بهذا التقدم التقني مسرعة، تأخر قطاع الفن التشكيلي عن القيام بذلك، ولم ينسق الفنانون نحو فكرة تطويع التقنية لتقديم شكل جديد من هذا الفن الذي لطالما صور لنا المبدع منغمسا بيديه وفكره في خلق لوحاته ومنحوتاته.
وفي تونس، لا يزال قطاع الفن التشكيلي متأخرا مقارنة ببقية الدول في اللحاق بركب التطور التكنولوجي غير أن هناك محاولات فردية وجماعية قليلة تحاول تكريس قيم ومفاهيم جمالية جديدة متناسبة مع التكنولوجيا وتغيير ذوق الفنان الجمالي والإبداعي بما يدفعه نحو تقديم عروض فنية تمازج بين الرسم ومختلف الوسائط التقنية.
ورغم أن التكنولوجيا الحديثة أمدت الإنسان المعاصر بسيل وافر من المعلومات وفتحت أمامه آفاقا شاسعة من المعرفة ومن ثمة فرضت عليه أيضا أساليب جديدة في السلوك، إلا أنه ليس من السهل على الفنان التشكيلي أن يتقبل الآلة وانعكاساتها على عالمه المحبب وتبعات ذلك على سلوكه الفني تحت ما يسمى مسايرة العصر ومقتضيات التطور والتجديد.
وتعدّ الفنانة التشكيلية منى حفيظ عباس وهي دكتورة وباحثة في الفن التشكيلي، واحدة من الفنانين القلائل الذين يحاولون منذ نحو خمس سنوات المشاركة في الحركة التشكيلية بمعارض معاصرة كان آخرها معرض بعنوان “آثار التهجين” الذي شارك فيه طلبة وباحثون وعرضت اللوحات في المعهد العالي للفنون والحرف بقابس، ضمن فعاليات الملتقى الدولي “التفكير في المستقبل من خلال العلاقات الإبداعية والمبتكرة الممكنة بين الفنون والعلوم والتقنيات”.
والمتأمل للفيديوهات الموثقة لهذا المعرض، يلحظ التفاعل والتمازج ما بين تقنيات الفن التشكيلي وتكنولوجيات التصوير الحديث، فاللوحة التي ترسم في العادة بألوان مائية وزيتية وتمزج بين الأكريليك والكولاج وغيرها من المواد، صارت اليوم منتجا “هلاميا” لا يراه المشاهد أمامه ولا يتأمله، بل يكتشفه عبر شاشة عملاقة تعرض اللوحة التشكيلية وكأنها فيلم أو فيديو لصور مجمعة.
ويلحظ المشاهد تنوع الأساليب الفنية للرسامين، فرغم أنهم يرسمون بتطبيقات إلكترونية إلا أنهم عرضوا لوحات مبتكرة من أشكال هندسية وأخرى أساسها ملامح الوجه البشري، بألوان تختلف كثيرا عن تلك التي نشاهدها في المحامل التقليدية، فمن مساوئ عالم الفيديو أنه لا يعرض اللون بدرجاته القريبة من الواقع، بل هناك ألوان مشعة وواضحة دون غيرها، فيما تمكننا هذه الوسائط التقنية من تسليط الضوء أكثر على حركة اللون والأشكال الهندسية لتصبح مثيرة للانتباه.
ورغم أن مثل هذه العروض تتهم بأنها لا تضيف ولا تقدم للعمل الفني شيئا بل تفقده أشياء كثيرة، من بينها تقديمه كفن يخلو من العواطف ومتجرّد من كل ما هو إنساني، حدوده “فلاشة” أو جهاز كمبيوتر، إلا أنها تستعير من السينما وعالم الفيديو “الإثارة” في عرض المنتج الفني، فبعض اللوحات تعرض تدريجيا حتى تكتمل تفاصيلها في إيحاء ضمني لمراحل إنجاز أي عمل تشكيلي تقليدي.
وقد تكون هذه التقنية أيضا حلا لأزمة المساحة التي كانت في السابق تفرض وجود قاعات خاصة بالمعارض التشكيلية، مجهزة بتقنيات للإضاءة، وبديكور عام يتماهى مع المعارض على اختلافها، لكن بـ”سجن” اللوحات داخل فضاء تكنولوجي يصير من الممكن حملها وعرضها في كل زمان ومكان شريطة توفر الوسائط التقنية.
وستجعل هذه التقنيات الحديثة المشاركة في المعارض الدولية أمرا يسيرا في حال دمجها مع العروض التقليدية، فبعض الفنانين كانوا لسنوات طويلة يشكون من صعوبة السفر والتنقل مصحوبين بعدد من اللوحات، يسكنهم هاجس لحمايتها والحفاظ عليها من التلف والسرقة وغيرها، إلا أن حملها في “فلاشة” صغيرة، تدس في جيب بنطال أو حقيبة، تجعل الأمر أكثر سهولة.
وبالإضافة إلى المحمل، لا تغير التكنولوجيا فقط الأدوات التي يستخدمها الفنانون، ولكنها أيضا تعيد تعريف قماش لوحة الرسم، والمادة المستخدمة في النحت، إذ انفتح الفنانون الآن من حدود اللوحة والمعرض على جميع أنحاء العالم.
ومن خلال كل ما سبق صار إنتاج الفن وتوزيعه على الناس في جميع أنحاء العالم أمرا يسيرا، فهو يسمح للمزيد من الناس بمشاهدة الإبداعات الفنية ويتيح للفنان مغادرة العروض التقليدية المحصورة في المتلقي التقليدي الذي عادة ما يكون من عالم النخبة أو الموهوبين والصحافيين والنقاد.
وأفسح العالم الافتراضي المجال لتنظيم معارض متنقلة تستخدم تقنية الواقع الافتراضي، والواقع المعزز، إذ يدخل الزائرون في سلسلة من الغرف المجهزة بسماعات رأس افتراضية مربوطة بالمقاعد أو يجلسون في قاعات تقدم لهم عروضا تشكيلية أشبه بعروض سينمائية، ورغم أن البعض قد يرى فيها تقنية لا فن فيها، إلا أن المعارض المنظمة على هذه الشاكلة تمحو أي إحساس بالمبنى أو إزعاج من الضيوف الآخرين حولهم وهم يتأملون اللوحات التشكيلية.
وتظل العلاقة بين الفن التشكيلي والتكنولوجيا علاقة تكاملية تفرضها روح العصر الحالي، ولن تنفك التجارب الإبداعية عن محاولة التجديد في دمج العلم مع الفن لإنشاء تجربة جديدة تماما لكل من الفنان والمشاهد، وفي المستقبل يمكننا أن نتوقع حدوث تغيرات وابتكارات أكثر، وها نحن سوية نستكشف تقاطع الإبداع والتكنولوجيا مع الفن.