تصنيع الجنة الافتراضية
بقلم: مصطفى أبو لبدة

النشرة الدولية –

عندما يكون الواقع المعيشي صعباً بالدرجة التي يستشعرها ابنك، وخارجاً عن السيطرة بالدرجة التي تعرفها أنت، فلا بأس أن تقلق زيادة عندما تكتشف أن الفتى وجد لنفسه الحل دون جهد أو كلفة.

الحلّ بأن ينتقل من عذاب واقع حقيقي ضنك إلى نعيم واقعٍ افتراضي، يتيحه جيل جديد من السوشيال ميديا بجعل الناس يشعرون بأنهم حقيقيون في بيئة افتراضية.

والحديث هو عن الجنّة المشغولة بالذكاء الاصطناعي الذي تعمل فيه ”الميتافيرس“ (بديل الفيسبوك) بتقنيات تبني مسارات جديدة في الأدمغة، تستطيع حجب الحقيقة المُرّة واستبدال الواقع المحبط بواقع افتراضي مثالي يلجأ إليه الناس هرباً من حال فقدوا القدرة على تغييره.

لعلها أحجية التنقل الممتع والمريب، بين العالمين الافتراضي والتشبيهي، كما وصفتها دراسة أخيرة للمعهد الوطني الأمريكي للصحة النفسية.

التوصيف العام الشائع للميتافيرس أنه مفهوم مستقبلي لبناء بيئات افتراضية، حيث يمكن للمستخدمين العمل والتواصل الاجتماعي واللعب.

منصة مجانية يمكنك فيها الاستكشاف أو اللعب في عوالم جاهزة أو إنشاء بيئاتك الخاصة.

وبهذا التوصيف البريء، يكون الميتافيرس خليفة الإنترنت، كما يضحي الجيل التالي للتواصل الاجتماعي وهو يبني مساحات ثلاثية الأبعاد تتيح التواصل الاجتماعي والتعلم والتفاعل بطرق تتجاوز ما يمكن تخيّله.

في وقت سابق من هذا الأسبوع، قالت شركة ”ميتا“ إنه تم تشغيل 10000 عالم في واحدة من مستوطناتها، وتحشيد أكثر من 20000 عضو في مستوطنة أخرى خاصة للمبدعين، وأنها رصدت 10 بلايين دولار مخصصات للعام الحالي للاستثمار في لعبة التنقيل بين الافتراضي والحقيقي، وهي اللعبة التي أثارت في أوساط الاختصاص بعلم النفس هواجس جدية ترصد نوعية العبث الذي يحصل لأدمغة المتنقلين بين العالمين الحقيقي والافتراضي.

في رحلة الانتقال الذي تروج ”الميتافيرس“ بأنه الجنة المتاحة دون تكليفات، فإن تقنيات الانخراط باللعبة معروفة؛ جهاز كمبيوتر ببطاقة رسومات قادرة على التصوير التفاعلي الثلاثي الأبعاد، وأجهزة التحكم، وشاشة مثبتة على الرأس تتضمن أجهزة تتبع قادرة على استشعار موقع واتجاه المستخدم وتوصيل هذه المعلومات إلى الكمبيوتر، الذي يقوم بتحديث الصور لعرضها في الواقع الحقيقي.

علمياً، تمثل هذه التقنيات شكلاً متقدماً من أشكال محاكاة الواقع التي لها العديد من أوجه التشابه مع وظائف الدماغ.

فما يحصل في الدماغ، في أكثر الشروحات تبسيطاً، هو أنه يحاكي هذا الواقع الافتراضي، وذلك بإنشاء نموذج داخلي للجسم والمساحة المحيطة به.

وكلما كان نموذج الواقع الافتراضي أكثر تشابهاً مع نموذج الدماغ، زاد شعور الفرد بوجوده في عالم الواقع الافتراضي، ما يجعله أداة مثالية للتعلم التجريبي، وبالتالي التحكم به عن بُعد.

المعهد الوطني الأمريكي للصحة النفسية، وهو يجتهد بتبسيط ما يحصل لدماغ المنخرط في الميتافيرس، يحدده بأنه القدرة على خداع آليات التشفير التي تنظم عمل الجسم، ما يسمح بجعل الناس يشعرون بأنهم ”حقيقيون“ في بيئة افتراضية.

وفي النوعية المتقدمة من هذه التقنيات، يمكن فصل المستخدم حسياً عن العالم المادي واستبدال تياره الحسي بالسيناريو المحاكى الذي تم إنشاؤه بواسطة الكمبيوتر.

فيه يمكن تغييب الحدود بين الصحوة والغفلة عن طريق تغيير توصيلات الدماغ والمسالك العصبية المرتبطة بالوظائف الحسية والحركية، مشفوعة بإعطاء نماذج من فعاليات الحواس الخمس بما فيها الشم واللمس والنشوة.

وفي هذا النوع من العالم الافتراضي، يصبح من الممكن الشعور بطلقات سلاح في الصدر أو ارتطام كرة، كما يمكن معايشة لحظة العناق وكأنها حقيقية وليست لحظات افتراضية.

قبل بضعة أسابيع، توسعت الصحف الأمريكية في عرض تفاصيل أول حفلة عرس في العالم الافتراضي.

وقبل بضعة أيام، وفي أعقاب شكوى سيدة من تعرضها للتحرش، قامت ”ميتا“ بوضع حد شخصي غير مرئي بطول أربعة أقدام يفصل بين الشخص والآخر في الميتافيرس، لمنع اللمس غير المرغوب، ووعدت بتعديل المسافة مستقبلاً، بحسب الرغبة.

ويوم أمس الأول، الثلاثاء، أعلنت ميتا أنها تعمل على نوع جديد من نماذج الذكاء الاصطناعي، سيسمح للأشخاص بخلق عوالم افتراضية عبر وصفها فقط لوسائل المساعدة الصوتية.

عرضت شخصاً افتراضياً على جزيرة نائية، يحلم بما أوحوا أنه الجنة الموعودة التي يكفي لاستدعائها وسيلة صوتية تطلب فتُجاب.

وقالت الشركة أيضاً إنها تعمل على إنشاء نظام ذكاء اصطناعي قادر على الترجمة بين جميع اللغات؛ اللغة هناك لن تكون عائقاً أمام المتعة، كما هي هنا في العالم الحقيقي.

أكثر من ذلك، فقد بنى فريقها البحثي حاسوباً عملاقاً جديدا للذكاء الاصطناعي يعتقد أنه سيكون الأسرع في العالم عند اكتماله في منتصف العام الحالي 2022، ووعدت بتطويع التعقيدات وتخفيض تكاليف الاستخدام بأن يصبح العالم الافتراضي متاحاً للمستخدمين على الهاتف النقال، قبل نهاية العام الحالي.

مؤكدٌ أنه لا يصح التقليل من حجم العبقرية التي تنقل السوشيال ميديا إلى جيل جديد يسمح للمتعَبين بالهرب إلى جنة افتراضية، من خلال فك وإعادة تركيب مسالك الوعي في الدماغ.

لكن، في المقابل، ليس سهلاً اكتشاف أن ذلك لا يتحقق مجاناً؛ الإرهابيون أيضاً يجري تصنيعهم بمهارات مماثلة.

Back to top button