“حياة البالغين الكاذبة ” خارطة نفسية لمراهقة إيطالية
النشرة الدولية –
برس بارتو – وديعة حماد / البحرين –
حورات عميقة تأخذ بعين القارئ للسبر بأغوار النفس البشرية . هذا هو الأسلوب المعهود للكاتبة الإيطالية المتخفية منذ التسعينات تحت اسمها المستعار ” إيلينا فيرّانتي “، والذي برز بشكل واضح في عملها الفني الأخير ” حياة البالغين الكاذبة “. فيرّانتي الأديبة الأكثر شهرة في إيطاليا تحاكي صراحة في رواياتها أسرار المجتمعات الثقافية في المنطقة ، وتبرع في تعرية شخصياتها إلى أعمق مشاعرهم حساسية وصراحة ، وتعكسه بشكل فريد داخل أعمال حققت نجاحاً عالمياً استطاعت فيه بيع أكثر من تسعة وثلاثون مليون نسخة حول العالم، أشهرها سلسلة رباعية نابولي المعروفة بقصة ” صديقتي المذهلة ” ، والتي دخلت للمكتبات العربية بإصدار عن دار الآداب اللبنانية ، بالتعاون مع المترجم معاوية عبدالمجيد . وقد تجدد هذا التعاون مؤخراً في هذه الرواية بعد بيعها وترجمتها إلى أربعة وعشرون لغة أخرى .
تكتب الروائية عن جيوفانا ، صبية إيطالية مراهقة لأبوين مثقفين . وتبدأ الحكاية حين تسمع بالصدفة يوماً حديث لوالدها يشبه فيه وجهها بوجه أخته فتّوريا ، عمتها قبيحة الوصف وسيئة الصيت التي لم تلتقيها يوماً بسبب القطيعة . فتح لها هذا الحديث باباً للكشف عن الأسرار العائلية بدءاً بالبحث عن عمتها والتعرف عليها . كما حرك فيها فيضاً للكثير من المشاعر الداخلية التي قد تساور الصبايا في تلك المرحلة العمرية .
الإختلاف الطبقي واللغوي
الرواية التي تناولت الحياة في نابولي ، انقسمت إلى حيوات جيوفانا وأبويها وأصدقائهما في نابولي العليا ، حيث الحياة الثقافية والمترفة ، بعيداُ عن وجه الحياة الحقيقي في نابولي السفلى التي تقطن فيها عمتها ” فتّوريا ” وباقي الشخصيات المترابطة معها . لذا فأن تفسير الأشياء تم تناوله داخل العمل بشكل مختلف بين الطبقتين . جيوفانا كانت تجعل الشكليات والتعاليم الحياتية التي حظيت بها في وسطها المترف محط تساؤل، فتقول عن أبيها “كان يجعلني أقوم بكل ما أريد ، وكان هو الذي يضع لي مفاهيم الخير والشر”. غير أن هذه المفاهيم ، حسب قصة جيوفانا ، كانت تحمل ورائها قصص خيانة وكذب وحكم على المظاهر آلمت بمراهقتها. في مقابل ذلك ، تجربتها مع العمة عرّفتها على طرق أخرى لفهم الكبار وعوالمهم ، فعلى الرغم من فضاضتها ، فالحديث معها كان كما تقول ” دلالة على أنني أتعلم ما وراء المظاهر ” .
اللغة الإيطالية المستخدمة داخل العمل شغلت القراء العرب للإشارات المتكررة عن اختلاف اللهجة بين الطبقتين . فبالرجوع إلى قيام إيطاليا كدولة ، فإن هذا التكوين جاء نتيجة نزوح شعوب وقبائل يونانية إلى شبه الجزيرة الإيطالية ، وقد تطورت لهجاتهم المختلفة كقبائل عبر القرون إلى عدة لهجات محلية .اقتضت المدرسة القومية في القرن التاسع عشر إلى وجوب اختيار لغة فصحى وطنية ، فوقع الاختيار على لهجة مدينة فلورينسا التي كانت مدونة في رواية ” الكوميديا الإلهية ” لكاتبها دانتي ألغييري ، وماغير ذلك تم تصنيفه كلهجات شعبية .
لهجة جيوفانا كانت ناصعة و فصيحة ، إلا أن النزول إلى نابولي السفلى عرفها على المفردات العامية وماتحمله على ناطقها من وصمة طبقية ، و أشارت بعمق لهذا السياق بقولها ” خسارة أنني لا أتقن اللغة التي يتكلمون بها ، وأنني لا أحاط بألفة حقيقية “.
المراهقة من وجهة نظر الأدب .. و لماذا تبدو حياة البالغين “كاذبة”
صراع جيوفانا يكمن في تجربتها الخاصة لإعادة تعريف الأشياء من منظورها لا من منظور الكبار ، فتسلط الضوء على حقيقة الحب المشروط الذي يآلم بالمراهقين ويجرهم إلى ما لا يحمد عقباه . فالغضب الذي يحاول الكبار عزله عن صغارهم يتسرب إلى مسامعها .
تتعثر دراسياً في فترة بلوغها ، فيقول والدها الذي دللها كثيراً “لا شأن للمراهقة ، وجهها يصبح مثل وجه فتّوريا”. تحاكي القصة التخبط الذاتي والنظرة الدونية للجسد الذي ترافق المراهق نفسياً نتيجة تلقيه تعليقات عابرة لا يقصد فيها الكبار ماتعنيه كلماتهم حقاً . تقول جيوفانا : “أشعر أني قبيحة ، سيئة الطباع ، ومع ذلك أريد أن أكون محبوبة “.
– ” هل نحن حقيقيون أكثر عندما نرى كل شيء بجلاء ، أم عندما تتفاقم مشاعرنا الأقوى والأمتن – كالحب والكراهية – فتُعمى أبصارنا ؟ ”
– “الحقيقة صعبة ، ستفهمين ذلك حين تكبرين ، إنها شيء لا تكفي معه الروايات. هلا أسديت إليّ هذا المعروف إذن”.
أكاذيب، أكاذيب، يحظرها البالغون ثم يتفوهون بكثيرٍ منها”
بعد مرحلة عميقة من الحزن تتمرد جيوفانا وتغضب ، فتنزلق لمعرفة الكثير من أسرار العائلة .و تتحول التساؤلات إلى إعادة بلورة مفهوم الكذب والصراحة والخير والشر في هذا العالم .
تشير القصة في هذا السياق إلى غياب الإدراك عند المراهقين لفعل المجاملات الإجتماعية التي يضطر المرء لحملها معه عند بلوغه ،وماتسببه من تناقضات على المتسوى الفردي للمراهق والبالغ ، والمجتمعي ككل نتيجة هذه التبريرات.
وعلى الرغم من الهجوم الذي شنته جيوفانا على عالم الكبار طيلة أحداث القصة . فإن فيرّانتي تنهي عملها بمحاولة تذكيرقراءها على أهمية التخلي عن محاولة تغيير العالم ، والتركيز في مقابل ذلك على بناء مسيرة فردية سليمة يحاول فيها المرء تجنب الأخطاء الحياتية التي قد يتعثر بها كل فرد في محاولة فهم الأخطاء المجتمعية ومايقابله من صراعات وجودية . تحمل هذا المعنى على لسان بطلتها فتقول ” أدركت أنه من المستحيل إيقاف المجريات “.
قد تبدو الرواية ظاهرياً قصة من قصص المراهقين ليس إلا ، ولكنها رائعة لقدرة الكاتبة على وصف المخاوف والتساؤلات التي رافقت البطلة بشكل واسع . حيث تناولتها في شتى العلاقات والمواضيع المطروحة في حبكة درامية تشد القارئ . قصة مشوقة تبعث على الكثير من التساؤلات وتطرح الكثير من الأجوبة .. تستحق القراءة .