الطبلة النسائية: تمرد على مجتمع ذكوري يخفي حلما بالقوة

تراث الشعوب والأمم لا يخلو من مرافقة الطبل للإنسان في مختلف شؤون حياته

النشرة الدولية

العرب – حنان مبروك –

اقتحمت المرأة العربية المجالات الثقافية على اختلافها منذ عقود طويلة، فافتكت فنونا كانت مخصصة للرجال فقط، حتى توصلت إلى فرض نفسها على المجتمع كعازفة للطبل والطبلة، تلك الآلة العجيبة التي اقترنت منذ فجر الإبداع الإنساني بالذكور وقوتهم الجسدية واكتسبت هيبة من مرافقتها لطقوس دينية واحتفالات شعبية.

للطبل تاريخ طويل ضارب في القدم، فقد كانت لقرع الطبول في مختلف الحضارات مناسبات مرتبطة بالمعتقدات والشؤون الاجتماعية. وتكشف الرسوم على جدران المعابد والأماكن التاريخية علاقة الإنسان بالطبل. فهو وإن لم يكتشفه منذ بدء التاريخ إلا أنه كان يبحث عن أي فرصة لخلقه، عبر القرع على الأسطح الحادة وعلى أعلى الفخذ والضرب بالقدمين على الأرض.

ودلّت الاكتشافات الأثرية أن الطبل كآلة يعود إلى ستة آلاف سنة، مع الطبول الفخارية التي تم اكتشافها في مورافيا، وهي منطقة جبلية في شرقي جمهورية التشيك.

وتذهب بعض المصادر إلى أن الطبل الكبير المستدير هو أقدم أنواع الطبول، وتوجد من هذه الطبول نسخة لأقدم أثر سومري وهو المسلة السومرية المعروفة باسم “مسلة بدرة” الموجودة في المتحف العراقي والتي تعود إلى 2600 – 2500 قبل الميلاد.

وكانت للطبول منزلة مُقدَّسة عند السومريين والبابليين، حتى أن لقب “حارس الطبل” كان من أهم الألقاب عندهم، فقد خصصوا للطبل الكبير المقدس، الذي لا يفارق الهيكل حارسا برتبة كاهن عظيم وميَّزوه بلقب “حارس الطبل المقدس”.

وحراس الطبول هم أشخاص ينتقون بعناية ويدربون على حراسة طبول الهياكل الدينية وبيوت الحكمة، حين كان القرع على الطبول تعبيرا عن هيبة الحاكمين وسيطرتهم على شعوبهم، ويحتاج أشخاص أقوياء أشداء للقيام بالمهمة.

وعرفت الحضارة الفرعونية الطبول المصنوعة من خشب السّدر وكانت لها فنون في صناعتها، وتشارك في مجريات الحياة اليومية لاسيما الطبل العملاق الذي بُنيت الأهرامات على إيقاعاته، حيث تقول بعض الدراسات إن الفراعنة كونوا فرقا خاصة ترافق العمال، لاعتقادهم أن إيقاع صوت الطبول يحفِّز العقل والجسم ويحثُّهما على الإبداع.

وتطورت أنواع الطبول عبر الزمن، حتى أن الطبلة صارت أكثر انتشارا، ربما لصغر حجمها، فهي آلة يصنع جسمها من الفخار على شكل إناء ضيق القطر عند أحد طرفيه، وعريض القطر عند الطرف الآخر. يُشدّ على الطرف العريض جلد من السمك أو الماعز بواسطة غراء وشبكة من الخيوط المجدولة. أما الطبلات الحديثة فيصنع جسمها من الألومينيوم ووجهها من البلاستيك الشفّاف.

وفي عصرنا الحالي تحظى الطبلة بانتشار واسع في الموسيقى الفولكلورية وموسيقى البوب وخاصة في الموسيقى الشرقية المصاحبة للرقص الشرقي.

ورغم أنها آلة تطورت مع الإنسان عبر العصور، إلا أنها ظلت حكرا على الذكور، خاصة في المجتمعات الشرقية والعربية، التي ربطت القرع على الطبل والطبلة بالرجال. وتكمن المفارقة بينهما في أن “رجل الطبل” لا يكتسب النظرة المجتمعية عينها التي يُنظر بها لـ”رجل الطبلة”، فالأول ذو هيبة وقوة أما الثاني فمحب للصخب والمجون. وربما يعود ذلك لارتباط الطبل في الخيال الشعبي بالطقوس الرسمية والمقدسة بينما ارتبطت الطبلة بالحفلات والسهرات.

و”الطبال” تحولت في مجتمعاتنا إلى صفة سيئة تطلق على الشخص المتلاعب الذي “يطبل” لمن يفوقه في القيمة أو الأهمية، أي تطلق على سبيل المثال على شخص يتودد لمديره في العمل أو رجال الأمن أو أصحاب النفوذ والسلطة، وصارت تلك الصفة تدعى “تطبيلا”.

ومن شدة النظرة الدونية التي ارتبطت بالطبال (عازف الطبلة)، صار لدى الشعوب العربية رمزا للزيف والخداع، وارتبط اسمه وصفاته بأعمال فنية سينمائية وتلفزيونية، تجعل هذه المهنة دورا لا يتقنه سوى الرجال، فقد رأينا منذ العام 1984 فيلم الراقصة والطبال وهو فيلم مصري من بطولة الفنان أحمد زكي والفنانة نبيلة عبيد وإخراج أشرف فهمي وتأليف إحسان عبدالقدوس.

وفي العام 2016 قدم الممثل أمير كرارة مسلسل الطبال والذي يلعب فيه دور عازف طبلة يتخفى وراء مهنته ليتزعم عصابة لتهجير الشباب ضمن رحلات هجرة غير شرعية.

ويمكن القول إن تراث الشعوب والأمم لا يخلو من مرافقة الطبل للإنسان في مختلف شؤون حياته، بمختلف أنواعه، ولكل بلد عربي طبوله التي تميّزه وغالبا ما تكون مرتبطة من حيث شكلها وتسميتها بأداء فلكلوري معيَّن.

رغم أنها آلة تطورت مع الإنسان عبر العصور، إلا أنها ظلت حكرا على الذكور، خاصة في المجتمعات الشرقية والعربية، التي ربطت القرع على الطبل والطبلة بالرجال

وفي السنوات الأخيرة رأينا محاولات من نساء عربيات اقتحام عالم الطبول، وخاصة تجربتين ناجحتين، كانت الأولى في لبنان أما الثانية ففي مصر أين صارت الفتيات يخترن تعلم العزف على الطبل في معاهد الموسيقى ويستعرضن مهاراتهن على مواقع التواصل الاجتماعي على أنغام أشهر الأغنيات العربية.

وفي لبنان صارت كريستينا عيد عازفة الطبل تلقب بـ”ساحرة الإيقاع”، وأصبحت قارعة الطبل الأولى في لبنان، واكتسبت شهرة جعلتها ترافق أشهر الفنانين على المسارح اللبنانية. وما إن لمع اسمها وكسرت حاجز الممنوع حتى دخلت العديد من الشابات المجال في محاولة للتجربة وانبهارا بجرأة صاحبتها.

أما في مصر، البلد العربي الرائد في الفن والموسيقى، فقد أعادت سها محمد علي الطبلة إلى حضن سليلات الفراعنة اللواتي عزفن على الطبلة منذ قرون دون خوف من نظرة المجتمع.

ومنذ تأسيسها عام 2019 فرقة إيقاعية تتصدّرها الفتيات تحت اسم “طبلة الست”، تحيي سها حفلات موسيقية تتنوع فيها أنواع الآلات الإيقاعية، وتلقى حفلاتها إقبالا من الشباب ومحبي الموسيقى الشرقية والنغمات الإيقاعية. وصارت الفرقة النسائية تنظم ورشات للراغبات في تعلم القرع على أنواع الطبول.

وبينما ينقسم المجتمع إلى قسمين، بين من ينظر إلى عازفات الطبلة والطبل على أنهن مبدعات في وسط ذكوري بامتياز، يرى فيهم الكثيرون متشبهات بالرجال، نسويات، يبحثن عن أي فرصة لاختراق عوالم لا تناسبهن.

وسواء رفضهن المجتمع أو قبلهن سرا وعلانية، ينطبق عليهن جميعا قول الكاتبة الشيلية إيزابيل الليندي “الطبول تهزم الخوف، والطبول هي إرث أمي، إنها قوة غينيا التي في دمي. وعندئذ لا يجاريني أحد، أصير قوة خارقة”.

ومن الطبل، يبدو أن هؤلاء يكتسبن بالطبلة قوة خارقة، تظل، حتى وإن أنكرن وجودها وسعيهن لامتلاكها، فرصتهن للتعبير عن قوتهن الدفينة التي ما انفكت المجتمعات تقيدها و”تكسر شوكتها”.

زر الذهاب إلى الأعلى