” رسائل من الشاطئ الآخر “تجربة رائدة في حقل عديد الأصناف الأدبية من توقيع الدكتورة “دلال مقاري باوش” والإعلامي “حسام عبد القادر”

النشرة الدولية –

بقلم : عباسية مدوني –الجزائـر

في تجربة غير مألوفة وأقل ما يقال عنها نادرة ، ليس لاندثارها وإنّما للتجديد الذي طرأ فيها وعليها ، بخاصة وأنها كتبت في زمن الوباء وزمن العزلة والخوف ، زمن كورونا الذي ضيّق الخناق وفتك بالبشرية دونما سابق إنذار ، تطلّ علينا تجربة فن الرسائل هي الأخرى دونما سابق إنذار لتفكّ تلكم العزلة وتجعل المتلقي فينا والقارئ الشغوف بخاصة ينغمس في فحوى شاعريتها وعمق أبجديتها ولحن أسلوبها العابر للقارات في مزيج ساحر من الشعر والنثر والفن التشكيلي والسير الذاتية المحبوكة جميعها كأصناف أدبية من عمق التجربة الإنسانية .

ضمن دفتّي كتاب يحمل بصمة الفن التشكيلي في مدارسه الواقعية تستوقفك لوحة فنية في فن الكولاج وهي تحمل دوّامة العالم الذي يحمل بين ثناياه جميع الممكن واللاممكن ، يحمل في لونه الأزرق السماوي لغة البحر والشاطئ والدعوة المفتوحة نحو عوالم المغامرة ، مغامرة أدبية نثمل من خلالها ونحن نتصفّح مجموعة الرسائل التي ليست على شاكلة فن الرسائل المتعارف عليه ، وإنّما هي رسائل تنطق روحيا وفكريا وإنسانيا قبيل أن نشكّل الحرف ونجمع الكلمات ونرصّ العبارات بتلكم البهجة التي تعلو المحيّى غداة انتشاء بالنثر والشعر والقصص السامقة المنحوتة بدقّة الواقع ، والتي حيكت من رحم الراهن والآني .

تلكم هي ببساطة بليغة تجربة ” رسائل من الشاطئ الآخر ” التي جمعت   ثنائيا غير اعتيادي لكلّ أسلوبه ، لغته وفخاخ أبجديته المثخنة بثنائيات الغربة والحنين ، الأمل والألم ، الخوف والرجاء ، الأمل والتأمّل ، الفرح والكآبة ، العجلة والتريث ، المنطق واللامنطق ، بعديد الحماقات في زمن الحبر واللون والورق …

“رسائل من الشاطئ الآخر ” من توقيع الدكتورة ” دلال مقاري باوش” الفنانة والناقدة التي صمّمت الغلاف وحرصت على إرفاق كل رسالة بلوحة فنية تشكيلية بمثابة توقيع إضافيّ يحمل هو الآخر الرمزية والإيحاء والدلالة والكثير من الاستعارات كإسقاط صارخ لفحوى كل رسالة معتمدة تقنيات الكولاج ثيرابي الذي يعدّ تقنية علاج في حدّ ذاته ، وبمشاركة الصحفي الأستاذ ” حسام عبد القادر” الذي أغدق بروحه وفكره وإحساسه ووجعه الإنساني هو الآخر في كل رسالة تمّ تبادلها بين ضفتين تحكمهما الغربة ، فالسيدة ” دلال” من أرض الياسمين /دمشق وهي مقيمة بألمانيا ، والإعلامي ” حسام ” ابن الإسكندرية المغترب بكندا ، فكانت الرسائل مخاض التجارب والغربة والحنين والكثير من البوح الذي لربّما لم ينثر بعد على قارعة العمر المحكوم بالزمكنة والتجارب وشطحات الوجود ، تلكم الرسائل كتجربة لم تعد مجرّد رسائل بين صديقين أو بين غربتين أو بين ضفتين وإنّما تخطّت المحتمل لتجد النور عبر صفحات الصحيفة الأردنية ( الرأي ) برعاية أنيقة من الأستاذ ” حسين دعسة ” ومن ثمّة توسّعت الرسائل لتجد طريقها نحو الطبع في كتاب أنيق أناقة ما يكتشفه القارئ غداة كلّ إبحار بين شاطئ من شواطئ البوح والعرفان والمتعة وفخاخ الإستفهامات العالقة .

عند مرافئ الأزمة نسجت الحكايــة / بين غربتين …بين أملين …بين وجعين

ونحن نتصفح الكتاب نعي من الوهلة الأولى نقط التباين بين الصديقين ، بين الضفتين ، فالدكتورة ” دلال” في مقدمة الكتاب التي عنونتها بـ ( الأحلام تسدّ ثقوب الذاكرة المرة ) تعرّي شجنها وقلقها ، وترفع ستار الذكريات المضطربة وفضاء رحبا من الإنفعالات الذي من خلاله تنسج أحلامها وتكشف فخامة حنينها ، كما تطرح عديد الإستفهامات التي قد يجيب عنها الزمن مستقبلا ، مؤكّدة أن الرسائل وحبر الكلمات وحدهما كفيل بدحض الأنين ، وأن الكولاج المعتمد في كل أعمالها وما تضمّنه كتاب ( رسائل من الشاطئ الآخر ) وحده من يعيد البهجة إلى صباحاتها بسحرها وعنفوانها .

أما الصحفي ” حسام ” فقد عنون مقدّمته بــ ( رسائل من الشاطئ الآخر ، تجربة إبداعية مختلفة ) وكأنه يمنحنا فسحة التأمل بدل المرة عشرا ، لنعي أن ما بين أيدينا كقرّاء ليس فن الرسائل العادي ، وهو فعلا كذلك إذ جمع في الأسلوب والطرح واللغة عديد الأصناف الأدبية من شعر ورواية وسيرة ذاتية  ، كما أن القرية الكونية التي نعيش في ظلها ومع أزمة كورونا المستجدّة لم يكن من المتوقّع أبدا أن تكون التجربة بهكذا مسار وأن تنحى منحى متجدّدا من الشغف والحماس لتكون ذات مسار إبداعي يحمل في جعبته عديد الحقائق والأحداث والأشجان والتجارب .

في حين راعي التجربة الأستاذ والكاتب الأردني  ” حسين دعسة ” فقد صرّح بأنها( رسائل غير تقليدية ) على أساس أنها عوالم غير تقليدية جمعتها الغربة وهي تعرّي مواطن الفكر والحضارة وجميعها محمّلة بالشغف والفرح الطفوليّ المغموس بالإبداع والجمال ، كيف لا والعالم يرزخ تحت وطأة كورونا والفزع والهلع ولا وجود لجرعة من أكسجين الوجود ، فكانت الرسائل تلكم –حسب تصريحاته في المقدمة – بمثابة انفتاح وانعتاق فكانت التجربة ثالوثا مبهجا من الضياء جمع الثنائي ” دلال” و” حسام ” مع لمسة إبداعية في الثالوث ألا وهي   ” فن الكولاج ” المعتمد ذي الرؤية  الجمالية والبعد الإنساني الحالم في شقّه الحضاري والفكري الملهم بجرعة من الوعي والنضج والرقي والسلام الروحيّ ، مستعرضا التجربة وقيمتها وما أضافته وما قد تضيفه في المستقبل الواعد كنوع نادر من فن التراسل بين صديقين جمع في رسائلهما المتبادلة والتي تبلغ ( 30 ) رسالة أكثر من إضاءة ن أكبر قضية وأجرأ تجربة ببعد إنساني وتواصل مغر وروح محلّقة في سماء الإبداع ، حملت جميعها العديد من التحديّات والتجارب والآراء لتكون حوارا حضاريّا مرنا مغموسا بحلم عذريّ ما يزال يدعو إلى الحياة والمتعة .

 

رسائل من الشاطئ الآخر / مكاشفة الروح وطرح قضايا عميقة إنسانيا

ثلاثون  رسالة اجتمعت في كتاب واحد لتكون تأشيرة سفر مدفوعة التكاليف نحو الحلم والعطاء ، نحو الطموح والأمل ، نحو التحدي والمغامرة ، نحو الأمل والألم والغربة والشجن والقضايا الإنسانية المتداخلة .

جميعها رسائل جاءت لتجعل من القارئ محلّقا في عوالم اللغة والأسلوب والحكمة وتحكيم العقل والمنطق ، والوقوف عند أكثر من عتبة لنتخطاها نحو أفق السؤال والجواب الغير المعلن ، أسئلة كانت ذات أبعاد تأملية وإجابات تتركنا كمتلقين أمام وابل من الصراعات وإن كانت لذيذة في بدايتها إلا أنها تحملنا على التمرد وأننا في رحلة لن تكتمل ضمن عوالم السرد والرواية والسير الذاتية والكثير الكثير من الشعر والنثر بأسلوب لغوي راق ومهارة في الطرح والتبادل .

كل رسالة بداية من رسالة ( الحلم ) حتى آخر رسالة وهي ( ذاكرة مثقوبة ) بها عديد الوظائف المثقلة كاهلها بالقضايا ، قضايا الغربة ، قضايا الحنين ، قضايا الإنسان ، قضايا العصر والحضارة ، قضايا الوجود والتأمل ، قضايا ذاكرة الإنسان من فرح وقرح ، من دمع وضحكات ، إنها مجموعة رسائل بنوتات متباينة لمنها ذات لحن عتيد لمن يملك أذنا ذوّاقة وروحا متّقدة .

جميعها ( الرسائل الثلاثون  -30 ) تزاحم الزمكنة ، تطارد الأحلام العذرية والطموحات الشرعية ، تنأى عن الضجيج وتحنّ لميلاد مجيد ، تعاقر شجن الإنسان وتعرّي معدنه الأصيل  ، تكاشف النوايا وتعكس مرايا العولمة وما تحمله من إيجابيات وسلبيات ، تزاحم المفردات وكنوز اللغة لتكشف سحر كل كاتب رسائل وهو يجزل العطاء بالروح والحبر والفكر ومضغة الإنسانية داخله لتتحوّل إلى هالة نور تتوق له كل نفس ضاقت بها سبل النجاة ، النجاة من مطاردة الماضي ، النجاة من ملاحقة المستقبل ، النجاة من التعايش مع حاضر ليس لربما على مقاس كل واحد فينا نظير الأزمات والنكسات والمتطلبات ، لكن تأتي الرسائل في كل فقرة متجدّدة بومضة أمل وجرعة حب وحفنة عطاء لتنير درب القارئ أن الخلاص قريب وجدااا.

في تراسلهما الإنساني السامق ( دلال وحسام ) نلفي لغة نابضة وأسلوبا سلسا من ينبوع ما يحمل كل منهما من رصيد وارف ، في الرسائل المتبناة بينها العديد من الثنائيات والمعادلات لكن جميعها تنتمي إلى الوجود ، وإن صقلتها الغربة تلكم الرسائل فلم تكن الغربة الدافع الوحيد أبدا ، بل شراسة الواقع ومحنة الأزمات ولّدت شرارة الإبداع في تجربة ( رسائل من الشاطئ الآخر ) ولم    يكن شاطئا آخر بتاتا بل كان مرفأ ذاكرة ومخزون ذكريات وبحرا من التجارب الوجودية ، لتكون فصول الكتاب في رسائله ( 30 ) فصول حياة ، فصول   غربة ، فصول أبجدية ، فصول عالم ، فصول واقع ن فصول تجارب وفصول معرفة وإبداع وفصول الإنسانية جمعاء .

بين مضغة الحنين وسحر البحر تتراءى الذكريات غداة ثقوب ذاكرة بكر وأسئلة محمومة بالوجود والإنسان

في شعرية سامقة وأبجدية عتيدة معجونة بروح الإنسانية نلامس فحوى لفيف من  القضايا التي لن  يفكّ رمزيتها سوى  القارئ الحذق والمتتبع الشغوف للأبجدية نثرا في حقل فنّ الرسائل.

فنّ الرسائل العابر للقارات ، العابر للإنسانية ، منارة في الروح الحبلى بالأحاسيس والمثقلة بالراهن من قضايا وشوائب وآفاق وآمال ، إنّه اعتداد بالإنسان وبالإنسانية ، تعرية لاحترافية الكتابة والبوح وفنيّة التواصل عن طريق الألف –الياء ، من خلال رسائل ( دلال وحسام ) لامسنا نفحات الأمل ونقاء الروح ، فنجدنا نبحر في يمّ العطاء بكل فصوله وطقوسه حسّا وإحساسا وإدراكا ومعرفة ، فنّا وفلسفة ونحتا للجمال وللحب وللحكايات غير المنتهية المحكومة بثالوث الماضي والحاضر والمستقبل .

وفي مضامين سحر تجربة ( رسائل من الشاطئ الآخر )  نلفي جسرا ممتدا بين حبرين ، بين شخصين وبين فنانين نابضين بالإحساس وعمق الرؤى وضجيج الزمكنة في نافذة مشرّعة على العديد من المحطات ، من الإستفهامات العالقة ، من البوح العفيف ، من الصراحة العميقة ومن الإنسانية السامقة كعريشة ياسمين تمتدّ وتمتدّ لتعانق وهج الحضور الآسر والفكر الراسخ المعتّق بالإبداع على أكثر من صعيد والدهشة المغموسة في التجارب الشاهقة المثيرة للهفة ، للشغف وللتمرد والجنون الوديع .

رسائل هي تحمل جناحي فراشة …محلقة في رحاب الوصل الإنساني والروحي … محلقة في فضاءات النور والبهجة لتغزل من ذلكم النور بهجة وفرحا على مقاس شهقة العطاء والبذل والعنفوان …

رسائل هي كانت بدايتها حلم ولا نهاية لها ..فلا نهاية للأحلام …ولا لنهاية للبوح ولا نهاية للطموح …حيث لا مناص من البياض والمداد …بها وبين عوالمها لغة فنية أخرى صادحة هي لغة الفن والفرشاة والقص والكولاج والروح الحالمة بالغد المشرق …

في مجموع الرسائل يتحول من خلالها الكبت إلى بوح عذري …والخوف إلى مجابهة شريفة …والواقع المرير إلى منارة حلم وطموح وعطاء …الذكريات فيها وبها دودة قـزّ تغزل حرير العرفان والصراحة وأريحية التلاقي …إنها لجوء منصف إلى أوطان ما تزال سامقة الحضور وشامخة الحرية …

من الرسالة الأولى ( الحلم ) حتى آخر رسالة ( ذاكرة مثقوبة ) نلمس تحديّات مغمورة نسجتها الحياة والغربة كخطين متوازيين ، لتكون الذاكرة سيدة المواقف والتجارب المتناثرة هنا وهناك ، وجميعها انطلقت من شرعية السؤال الذي ستجيب عنه مستجدات الحياة وهي تحيك من كل الضغوطات وفي ظل ما يدور في الكون الفسيح رداء للسلام وترنيمة لمصير تصنعه أرواحنا السامية والتوّاقـة للإنعتاق وهي تنغمس في تجارب الوجود ووشوشات الذاكرة وهي تصارع شتى الاضطرابات وتجاعيد الأزمات توقا للنجاة ، نجاة من ظلام البحر ، نجاة من قوارب الموت ونجاة من الوعود الكاذبــة علّ وعسى نحمل الفرشاة بأناقة ونلوّن ملامح وطن حرّ وشامخ .

في غربة المنافي وغربة المدّ التكنولوجي تعرّت الأحاسيس وبات الملاذ الوحيد أيقونة التواصل عن بعد مع استحضار محطات التواصل القديمة ، إنه الحنين لزمن وديع برئ من مستحضرات التكنولوجيا لأن الواقع يفرض ذاته ( واقع الغربـة ) وهي تعانق الملامح ، ملامح ألف ليلة وليلة التي لن تخون الذاكرة ولا البوح ولا الكلمات المستعصية فتغدو قناديل نور متوهّجة تقينا من الضياع …

ضياع وسط أوطان غير أوطاننا الأمّ ، ضياع وسط زحمة الأماني غير أمانينا العذرية ، ضياع بوصلة لغتنا وسط فوضى الأبجدية ، ضياع آخر الكلمات حينما يتضاعف الصمت ، ضياع مرفأ النجاة حين تحترق الطموحات ، طموحات جثث من يختار المدّ الأزرق ملاذا وهروبا من قمع السياسات الجائرة …لكن قشّة الأمل تطفو وتطفو …

وفي رسائل من الشاطئ الآخر استحضار صارخ لذاكرة الوطن المسكون بين جوانح الروح ، فالإسكندرية الساحرة صاحبة القوام الجميل والممشوق رائحتها تطغى بمونتريال في تفاصيل شوارعها ومحلاتها ، الإسكندرية ذات العطر الخاص والسحر الآسر ، لتكون دمشق العذراء في المقابل تلكم المدينة الآسرة المخضّبة بحنّاء الذاكرة والذكريات ، الشاهقة بعطر الياسمين ذات الأسوار المقدّسة ما تزال ترهق مغتربة بألمانيا تحترق لوعة لصباحات ومساءات عروس المشرق العربي ( دمشق) …

في غربة كليهما تحملها كرة أرضية واحدة مهما اختلف جواز السفر رغم تضاريس الجغرافيا المتباينة ، فالإنسانية لا حدود لها ولا تضاريس تميّزها ، بل يظل التوق للسلام والأمان والطمأنينة الحق الشرعيّ الوحيد الذي يستحق جميع التضحيات ليحيا الإنسان فينا بكرامة وعفّة وشرف على أمل عتيد أن نستحق كل ذلك بين أحضان أوطاننا الأمّ ، الوطن الشرعيّ …

 

لكن ، مع جائحة كورونا اتّسعت رقعة الغربة كما اتسعت فجوة الحنين وتضاعفت أماني الخلاص ، لتخلّف الجائحة صراعا محتدما لكنه صراع حميد فتح بقعة نور أمامنا وشرّع نوافذ التحديات والمبادرات من جديد ، وفتح أعين الكثيرين على حقائق صادمة لكنها في الغالب منطقيّة وجدا …فعرّت الزيف وكشفت خبث القوى العظمى ونفضت الغبار المتراكم عن طموحات آفاق وامتدادات إنسانية مشرقة …فالآنسة ( كورونا ) لها مزاياها وخطّت حكاياتها بخيط من نور رغم كل الظلام المنكشف …لتحمل كل إنسان على وجه المعمورة للبحث عن الوطن الذي يسكنه ، فكل إنسان منّا له وطنه الخاص بعطره وقداسته وجغرافيته ، لكن الجائحة كشفت معالم وطن كان يسكننا لكننّا كنا مغتربين عنه  – لربما عمدا – لكن المسلّم به أن الوطن الذي نحتفي به بشرف وعزّة وكرامة هو فقط من نصيب الفقراء ، المغلوب على أمرهم ، ففاحشوا الثراء باعوا الوطن غداة نكسة وغداة نزوة عابرة  ، باعوه كما باعوا ذممهم دونما ندم أو        حسرة …لأن الوطن دوما للشرفاء والشرفاء هم الكادحون ، النابضة قلوبهم بالعزّة والكرامـة والأنفــة …فأيّة لغة تليق بالتغنّي بالأوطان …؟ كل من مخزن أبجديته وكلّ حسب توقه واعتداده بلغته …؟ فهل تكتسي الأوطان غداة غربـة فادحة لغة غير لغتها …؟

ومن رسالة إلى أخرى ، ومن بوح إلى آخر نحت الرسائل منحى متجدّدا نابضا بأسرار الوجود ولغز الحياة ، ازدادت حكمة ورونقا ومكاشفة للأنا الباطن لكل كاتب ( دلال وحسام ) فكانا مغامرين ، مستكشفين ، توّاقين لسحر الحرف وعمق المعنى ولغز الغربة وسط ضوضاء الحياة المغمورة بالدهشة وشهقة الحكايات وسط زحام التجارب وتغيّر مسار العادات وفق منهج الحياة في الضفة الأخرى ، على المرفأ الآخر ونحن نحتمي بوهج الذكريات ونتكئ على عكاز          الذاكرة …ذاكرة اتّقدت أكثر بوجع كورونا …

وجع الآنسة كورونا ، الذي لم يسلب بهجة الحياة من روحهما ، رغم غصّة الأسئلة ورغم دائرة التيه المتّسعة ، إلا أن حبّ الحياة هو المنتصر رقم واحد مهما تصاعدت أرقام الموتى في زمن الوباء ، فثمّة نور الوجود لن ينطفئ ، لن تصلب ضحكات الأمل ولن تكمّم أفواه ما تزال تنادي بالفرح وترقص للغد ، للأمل ، للحب …للطمأنينة …لابتسامة رطيبة وأخرى مبتلّة بالشغف والجنون والتمرد …ونحن نلوّن الحياة بفرشاة الصمود ولون التحديات …

تحديّات ظلت وستظل متراكمة بين أجنحة رسائل من الشاطئ الآخر ليقين وحيد أنها متراصّة ، مثخنة بالشعر والإستعارة والبوح العفيف ، مكتنزة بالمعاني المتداخلة والألغاز الشيقة ، عابرة للزمن والمكان ، مستفزّة للذاكرة ، محفّزة للذكريات ، تتماهى وتتراقص على أرواح تناشد السلام والمحبة والعطاء من قمقم الفجع لتصرخ ملء مصداقيتها أن السعادة عدوى إيجابية كما الإبتسامة العفوية التي تنقش بالروح مدارات غير متوقعّة متاخمة للنبض حين رقص أنيق .

رقص قد يكون وليد صمت كما صرحت دلال في رسالتها ( في صمتي سبع آهات وقيثارة ، وارتعاشة وتر في صدر الفراشات الموسمية العاشـقة )  هي المسكونة بالشعر ، المتيّمة بالكولاج ، هي البدائية والبرية التي ما تزال تنحت من وجودها كلمات حرّة تلامس أسرار الحياة بكل شفافية ودونما تورّط في جبّ الضوضاء وطاحونة السوشيال ميديا  …

قد يقود زمن السوشيال ميديا رغم الإدمان عليه إلى صحوة ما ، فهو منفتح على أخبار العالم الآخر ، ومتابعة إنجازات الأحبة والأصدقاء ، لينفتح غداة صباح مشرق على مولود إبداعي غير عادي البتّة ، لأنه ولد من رحم معاناة مرضى السرطان ، ليكون كتاب ( مغلق ) لـ ” هند مسلم ” دعامة نفسية إيجابية في زمن الانغلاق والخوف والتردّد ، ليكون ( مغلق ) مفتاحا لدهاليز روح أنهكها الكيماوي لكنها ظلّت مشرقة ، مستفيضة بالحيوية ،هي أنموذج تحدّ آخر من كومة التحديات التي أضاءت العتمة وأنارت انتصارات الحياة بكل عفوية وصدق وبراءة …

من كلّ ذلك تنفتح شهية الوجود ، كما تنفتح النفوس على أكلات شهية بأنامل لها نفس طيب في الطهو ، كما حدث مع ( حـسام ) الذي  كشفت غربته تجارب مطبخ جزائري راق بأنامل ماهرة يجمع تضاريس الوطن الجزائر ، كما تجاربه المتعددة عبر العالم ، فوصفات الأكل هي الأخرى تأشيرة عبور نحو استكشاف حضارة ما ، فلكلّ مطبخ هويّة وثقافة ورؤية ، ليكون في المقابل لـ ( دلال) استحضار لحضارة قائمة بذاتها هي ركيزة العائلة الكبيرة كما كل الانتماءات     ( الجدة ) التي تغزل من حبّات عرقها  الكسكس ، وتروي ظمأ الأبناء من مخزون صدرها العامر حنيّة وحنوا وعطفا ، وتنسج بأناملها حضارات الوطن العربي بعطر متفرّد لا مثيل له .

ومن مواسم الثلوج إلى مواسم القدر نكتشف أن تجربة ( رسائل من الشاطئ الآخر ) لم تكـ ُ أبدا صدفة عابرة ، ففي كل تجربة حكمة ودعوة للتأمل ، إذ ثمة ترابط قد لا نكشفه من الوهلة الأولى ولا من الكبوة الأولى ولا من العثرة الأولى لكن تبقى رسائل الله في الوجود ذات إيحاءات ودلالات تزيدنا نضجا وتزيد الحياة متعة بحلوها ومرّها على ألا تضيع البوصلة منا ألا وهي بوصلة الإيمــان بالقدر خيره وشرّه ، وألا نغرق أكثر في لجّة التيـه غداة يقين أنه في كل تجربة درس وإن كان قاسيا .

لنبحر مجدّدا في التجربة ، مع قيمة الثقافة في حياة الشعوب ، وكيف للثقافة أن تكون الحل الأمثل في توحيد الشعوب ونشر ثقافة السلام ودحض العنف والعنصرية ، فالثقافة إبداع يوحّد الأرواح كل في مجاله وتخصصه ، ليقودنا ذلكم الإبداع إلى القضايا الوجودية والأسئلة المصيرية التي من شانها أن تفتح أمامنا آفاق المضيّ قدما في زحام طاحونة الحياة الحبلى بالتأمل .

ودونما تلكم الثقافة لن نحظى بحياة آمنة ، كما حدث مع الآنسة كورونا التي تركت أكثر من فجوة سنة 2020 لتعود الأسئلة الوجودية مطلع 2021 إلى   العلن كما تفضل الأستاذ ( حسام ) بالسؤال : ( فهل تعود الأحضان والقبلات في 2021 ؟) سؤال آخر يصيبنا بالحرقة  ، ونحن كما البقية على شواطئ آخرى من خارطة العالم نغرق في دوامة الأسئلة ، ما طبيعة المصل ؟ ما آثاره ؟ ما مصير البشرية بعده ؟ ليكون موعد الرسالة العشرون ( 20) كما الصدفة الجميلة مع نهاية 2020 ، فهل هي مصادفة كما تساءلت ( دلال ) ؟

الصدف بالوجود كثيرة ، لكن –حسب تقديري- أغرب وأشرس وأعمق الصدف أن تكون كورونا درسا ثريا لا مثيل له ، سيدرّس على المدى البعيد لعديد  الأجيال اللاحقة لما حملته الأزمة من رهانات ومخاوف وتصدعات وبراهين وألغاز …علّ وعسى تكون ( كورونا ) كما ( الثقافة ) من يوحّد ، من يفتح الأفق ، من يكاشف الأرواح ومن يغذّي الألباب ومن يزن قيمة الحريـة بالمفهوم الشامل والمطلق …

 

 

شتى الرسائل المتبادلة بين الدكتورة ( دلال مقاري باوش) والإعلامي الأستاذ ( حسام عبد القادر ) اتّسمت بلمسة فنية فارقة في طابع الكولاج لتكون كل لوحة بمثابة أبجدية صادقة  ونمط صريح للتعبير عن دواخل الروح وأرقها ، عن الاسئلة المخزّنة والإجابات المغمورة ، جميعها دونما استثناء أثّثت لحوار كوني واعد لن يتكرّر غالبا ، وإنّما يبقى حرّا طليقا في رحاب البوح العلني بحاجة وشغف كل كاتب رسالة من الطرفين ، وكأن تلكم اللوحات دعوات صريحة للتأمل أكثر ، للانغماس أكثر في فوضى الكون وسحر العالم وصرخة المداد  التي جميعها تنسج قضايا إنسانية تشغل حيّزا أكبر من هذا العالم ، هي( القضايا الإنسانية )  في مسيس الحاجة إلى القراءة والتمحيص والغربلة ، والتي أراها محمومة بالفكر والإبداع والإحساس والإيحاء والتعبير .

كل ذلكم التلاحم والتناغم في الرسائل وهي تعقد الوفاق مع فن الكولاج ذي الأبعاد السايكودرامية يحمل في جعبته أفيون السعادة ، السعادة التي يمارسها كل طرف فينا ومنا حسب تركيبته وميزاجيته وطقوسه ، فالسعادة وجب أن تكون حمامة سلام محلّقة في فضاء رحب خال من الضغينة والأنانية ، لتكن ذات أجنحة واسعة الأفق …

كل ذلك له أن يتحقق ويسمو ( هرمون السعادة ) إذا ما نأينا عن الظلم وعن الأطماع ، إذا ما التحمت الصفوف وتصالحنا مع ذواتنا ، فبرّ النجاة في السعادة التصالح مع الذات حتى تتحرّر وتنعتق ،حينها بالإمكان أن نستمرّ ونسمو ونتألق حين ننصت بشغف إلى البراءة التي تسكننا وحين نلامس وميض النور داخلنا الذي لابدّ أن يبقى متّقدا حتى نواصل المسير والتحليق في صراعنا المرير واللامنتهي ووحل المخاوف …

في تلكم الدوامة من الإستفهامات والأسئلة العالقة ، نبقى كبني آدم متشبثين بأرض الوجود ، وما ذلك سوى الوطن وإن كنا به نحسّ بالغربة بفعل فاعل ، يبقى تمسّكنا به لذيذا وغريبا في الآن ذاته ، لأنه ودون سابق إنذار يحمل ذاكرتنا وذكرياتنا ، يحفظ عن ظهر قلب مواجعنا وشتات أحلامنا ، يخبئ لنا في زاوية  ما من فؤاده وجعنا وشجننا وتمردنا ، يحتفي خلسة منا بفرحنا الطفولي وشقاوة آمالنا ، هو الوطن لا بديل له أو عنه ، لأنه صوت الحنين الذي يسكننا وكاتم أسرارنا …

كل ذلكم لنا أن نسمّيه مخاضا ، لكنه مخاض عسير تولّد من رحم الأنين والغربة والاغتراب ، ورضع من حلمة التيه والوجدان ، ليتخبّط مجددا في لجة السؤال ، فالإبداع نتاج تجارب ووقائع وواقع معيش، وهو في الأغلب يتغذّى من التجارب الإنسانية في معناها المطلق ، فسواء أكان الإنسان إعلاميا ( صحفيا ) أو فنانا ( مبدعا ) فهما يشتركان في نقطة هامة ألا وهي ( همّ السؤال وتقصيّ الأحداث والوقائع ) وقد يفرق واحد عن الآخر في درجة الإحساس العالي والشاعرية المرنة والموهبة ، لأن التركيبة الفيزيولوجية والذهنية والروحية وعصارة التجارب متباينة لكنها تتلاقى عند نقطة هامّة وهي الإلهام والدافع التي لابدّ أن تحيل إلى الشفافية   ، وعودة إلى الموهبة هي الأخرى مرتبطة براهن المجتمعات ، فثمة أوطان ترعى مبدعيها وثمة اخرى تكون سببا في موتهم المبكر ( مجازيا ) أي أن يتحول الوطن إلى مقبرة للإبداع والمبدعين ، وكم من وطن فرّط في طاقاته ومبدعيه ، فاحتدمت حمّى الهجرة وتفضيل قوارب النجاة نحو شواطئ غير شاطئ الوطن الملاذ …وههنا فعلا يمكن التسليم بأن الإبداع ألم وصرخة وفجع وانفعالات وشعلة أفكار لن تنطفئ بتاتا …

هكذا هي تجربة ( رسائل من الشاطئ الآخر ) مرنة ، متمردة ، عصيّة على التنازل عن الأمل ، بها فوضى أحاسيس أنيقة ، حكايات في جعبتها تحملك على الحلم الجميل ، رحلة نحو عوالم الروح الساطعة ضياء وأملا وإنسانية ، بها وفيها ثقوب ذاكرة تأبى أن تشيخ ، ستظل بقوامها الممشوق وقدّها المغري لتحفّز الذكريات أكثر أن تحلّق كما فراشة مغمورة بالجمال الآسر …

رسائل من الشاطئ الآخر حكاية لم ولن تكتمل مادام في الوجود فسحة أمل ، ستظل كمن يكمل حياكة كنزة الصوف ، مع غرزة متجدّدة كل حين حتى لا تخبو الحكاية ، حتى لا تصمت الحناجر وحتى يظلّ الوطن سامقا وتتحوّل الغربة إلى أنس ويغدو الإنسان فينا إنسانيا حالما ومعطاء …وللحكاية امتداد …

ليست مجرّد رسائل وإنما فصول ذاكرة مغموسة بياسمين الوجود ونسمة التحديات ، هي صور ناطقة وتجارب تخدش دواخلنا بحمّى الوقائع والأحداث ، هي مسافات شاهقة وسط عزلة العالم ، هي عصارة الألوان والأرقام والحقائق والثنائيات ، هي ذكريات لن تموت في ظلّ عذرية البوح وشغف الاكتشاف والتجريب ، هي لحن مزمن في فجر ساطع يعانق موج الشواطئ وهي تلتقط أنفاسها غداة مدّ وجزر ، هي معادلات صعبة في زمن الحنين والبهجة والقبلات المرسومة على وجنتي الوطن .

زر الذهاب إلى الأعلى