في يوم المرأة…. لماذا يخشى الحكام المستبدّون النساء؟
النشرة الدولية –
تشمل أهم مجموعة من القادة المستبدين عدداً كبيراً من المتحيّزين جنسياً، بدءاً من نابليون بونابرت الذي ألغى تجريم قتل الزوجات الخائنات، وصولاً إلى بينيتو موسوليني الذي ادّعى أن المرأة “لم تخلق شيئاً يوماً”. شهد القرن العشرون تحسّناً في مظاهر المساواة بين الجنسين في معظم أجزاء العالم، لكن بدأ القرن الواحد والعشرون يثبت أن كره النساء والاستبداد ليسا مجرّد أعراض مرافقة لمشاكل أخرى، بل إنهما مرضان متداخلان. على مرّ القرن الماضي، فازت الحركات النسائية بحق التصويت للمرأة، وزادت قدرة النساء على الاستفادة من خدمات الصحة الإنجابية والتعليم والفرص الاقتصادية، وبدأت تُرسّخ مبدأ المساواة بين الجنسين في القوانين المحلية والدولية. تزامنت هذه الانتصارات مع موجات غير مسبوقة من إرساء الديمقراطية في حقبة ما بعد الحرب. لكن أطلق القادة المستبدون في السنوات الأخيرة هجوماً متزامناً ضد حقوق المرأة والديمقراطية، ما قد ينذر بتدمير التقدم المُحقق على مرّ عقود طويلة في هذين المجالَين معاً.
انتشرت هذه النزعة الذكورية في جميع أوساط الأنظمة الاستبدادية، بدءاً من الديكتاتوريات الشمولية، مروراً بالأنظمة الاستبدادية التي تقودها الأحزاب، وصولاً إلى الديمقراطيات غير الليبرالية التي يرأسها زعماء طموحون. في الصين مثلاً، سحق شي جين بينغ الحركات النسوية وأسكت كلّ امرأة تتّهم الرجال الأقوياء بارتكاب اعتداءات جنسية، واستبعد النساء من اللجنة الدائمة في المكتب السياسي التابع للحزب الشيوعي. في روسيا، بدأ فلاديمير بوتين ينقلب على حقوق الإنجاب ويؤيد أدوار الجنسين التقليدية للحدّ من مشاركة المرأة في الحياة العامة. وفي كوريا الشمالية، دعا كيم جونغ أون النساء إلى طلب اللجوء في الخارج أكثر من الرجال بثلاث مرات. وفي مصر، أقرّ الرئيس عبد الفتاح السيسي حديثاً مشروع قانون يعيد التأكيد على حق الرجال بالأبوّة وتعدد الزوجات والمشاركة في اختيار أزواج النساء في عائلاتهم. وفي أفغانستان، أدّى انتصار حركة “طالبان” إلى محو 20 سنة من التقدم الذي أعطى المرأة حق التعليم وتمثيلها في المناصب العامة والمشاركة في سوق العمل.
في غضون ذلك، بدأت السلطوية الذكورية تدفع بعض الديمقراطيات الراسخة في اتجاه غير ليبرالي. شهدت دول يرأسها قادة ذوو ميول استبدادية، مثل البرازيل والمجر وبولندا، توسعاً في الحركات اليمينية المتطرفة التي تدعم أدوار الجنسَين التقليدية وتعتبرها وطنية تزامناً مع معارضة “إيديولوجيا النوع الاجتماعي”، وهو مصطلح يخيف الكثيرين وكانت منظمة “هيومن رايتس ووتش” قد عرّفته بعبارة “لا شي وكل شيء”. وحتى الولايات المتحدة شهدت شكلاً من التباطؤ في تقدّمها نحو المساواة بين الجنسين وحقوق الإنجاب، علماً أن هذه الجوانب بدأت تتحسن منذ فترة السبعينيات. تعاون دونالد ترامب خلال عهده الرئاسي مع جهات مناهضة للنسوية، لوقف توسّع حقوق المرأة حول العالم. ورغم التزام إدارة بايدن اليوم بالمساواة بين الجنسين على المستوى الوطني، تحاول الولايات التي يسيطر عليها الحزب الجمهوري الانقلاب على الحق الدستوري بالإجهاض، وقد أصبح هذا الحق الآن أضعف مما كان عليه منذ عقود.
ليس مفاجئاً إذاً أن يبدأ التمكين السياسي والاقتصادي للمرأة بالتباطؤ أو التراجع حول العالم اليوم. وفق مؤشر المرأة والسلام والأمن في جامعة “جورجتاون”، تباطأ تنفيذ قوانين المساواة بين الجنسين في السنوات الأخيرة، وتراجعت المكاسب المُحققة على مستوى التحصيل العلمي والتمثيل السياسي في البرلمانات الوطنية لصالح النساء. في الوقت نفسه، زادت مظاهر العنف ضد المرأة، وتوسّعت جرائم قتل الإناث في هندوراس والمكسيك وتركيا. أدّى وباء كورونا إلى تفاقم هذه النزعات على مستوى العالم، فأجبرت ملايين النساء على ترك العمل وتلقي رعاية غير مدفوعة، وحرمهنّ من خدمات الرعاية الصحية والتعليم، وأضعف خياراتهنّ لتجنّب سوء المعاملة.
تزامن الاعتداء على حقوق المرأة مع هجوم أوسع ضد الديمقراطية. وفق منظمة “فريدم هاوس” ومشروع بحث “أصناف الديمقراطية” في جامعة “غوتنبرغ”، تجدّدت مظاهر الاستبداد في آخر 15 سنة بكل وضوح. كذلك، عادت الديمقراطيات الجديدة نسبياً مثل البرازيل، والمجر، والهند، وبولندا، وتركيا، إلى الممارسات الاستبدادية أو بدأت تسير في هذا الاتجاه. أما الدول التي كانت تُعتبر استبدادية جزئياً منذ عشر سنوات، مثل روسيا، فقد أصبحت عبارة عن أنظمة استبدادية شاملة. وفي عدد من أقدم ديمقراطيات العالم، مثل فرنسا، وسويسرا، وبريطانيا، والولايات المتحدة، بدأت المشاعر المعادية للديمقراطية تتصاعد في أوساط الأحزاب السياسية الراسخة.
ليست صدفة أن تتراجع مظاهر المساواة بين الجنسين تزامناً مع توسّع الاستبداد. لطالما لاحظ علماء السياسة أن حقوق المرأة المدنية والديمقراطية ظاهرتان متلازمتان، لكنهم لم يدركوا بالسرعة نفسها أن حقوق المرأة شرط مسبق لإرساء الديمقراطية. يملك الحكام المستبدون الطموحون والذكوريون سبباً وجيهاً للخوف من مشاركة النساء في عالم السياسة: حيثما تشارك المرأة في حركات جماعية، يزيد احتمال أن تنجح تلك الحركات وتُمهّد لترسيخ ديمقراطية متساوية. بعبارة أخرى، تطرح المرأة الحرّة والناشطة سياسياً تهديداً على القادة المستبدين أو أصحاب الميول الاستبدادية، ما يعني أن هؤلاء القادة يملكون سبباً استراتيجياً للتصرف بطريقة متحيّزة جنسياً.
سيكون فهم العلاقة بين التمييز على أساس الجنس والتراجع الديمقراطي عاملاً أساسياً لكل من يريد محاربة الظاهرتَين معاً. يُجمِع الحكام المستبدون والقادة القوميون اليمينيون في الديمقراطيات المتنازع عليها على استعمال العلاقات الهرمية بين الجنسين لتقوية الحُكم القومي الذي يطغى عليه الرجال، من أعلى المراتب إلى أسفلها. أصبحت الحركات النسوية سلاحاً قوياً ضد الاستبداد بعدما حاربت لفترة طويلة التسلسلات الهرمية الاجتماعية التي رسّخت السلطة بيد أقلية من الحكّام. لا يستطيع الراغبون في كبح مسار التراجع الديمقراطي العالمي تجاهل هذه العوامل.
مدّ متصاعد
لا تكتفي المرأة التي تنشط على الخطوط الأمامية من الحركات الشعبية بزيادة فرص نجاح هذه الجماعات وتحقيق أهدافها على المدى القصير (مثل إسقاط دكتاتور قمعي)، بل إنها تجعل تلك الحركات أكثر قدرة على إحداث تغيير ديمقراطي دائم. يأخذ تحليلنا بالاعتبار عوامل متنوعة أخرى قد تجعل العملية الانتقالية الديمقراطية أقرب إلى الواقع، على غرار تجربة البلد السابقة مع الديمقراطية، وهو يثبت أن مشاركة النساء الواسعة في الخطوط الأمامية ترتبط بتوسّع الديمقراطية المبنية على المساواة، بحسب تعريف مشروع بحث “أصناف الديمقراطية”.
بعبارة أخرى، يمكن تشبيه مشاركة المرأة في الحركات الشعبية بالمدّ المتصاعد الذي يرفع جميع المراكب في طريقه. اكتشف الباحثون أن العمليات الانتقالية الشاملة تُمهّد لعقد تسويات أكثر استدامة بعد التفاوض عليها وإرساء ديمقراطية دائمة بعد الحروب الأهلية. لا تزال الأبحاث قليلة حول التسويات التي تشتق من الحركات السلمية، لكن يعني وجود المرأة على الأرجح توسّع المطالبات بالمشاركة في الانتخابات، وزيادة الفرص الاقتصادية، وتلقّي التحصيل العلمي والرعاية الصحية. هذه العوامل كلّها تزيد فرصة صمود العمليات الانتقالية الديمقراطية.
لكن ماذا يحصل حين تُهزَم الحركات الشعبية الشاملة ولا تبدأ أي عمليات انتقالية؟ تميل الأنظمة القائمة التي تقضي على الحركات الشعبية إلى إطلاق ردة فعل ذكورية عنيفة ومدعومة من الدولة. كلّما زادت نسبة النساء في الحركة المهزومة، تتصاعد ردة الفعل الذكورية التي تقف في وجهها. ترافقت هذه الظاهرة مع تداعيات سلبية في أفغانستان، وبيلاروسيا، وكولومبيا، وهونغ كونغ، ولبنان، وميانمار، وروسيا، والسودان، وفنزويلا، إذ تشمل هذه الدول كلّها اليوم حركات شعبية قوية وشاملة لكن لا تزال نتائجها غير مؤكدة.
كذلك، يكشف بحثنا أن الدول التي تشمل حركات شعبية فاشلة تصبح أكثر عرضة للتراجع الديمقراطي الحاد وانحسار مظاهر المساواة بين الجنسين، ما يجعلها أسوأ حالاً مما كانت عليه قبل بدء التحركات. بعبارة أخرى، يتوقف أثر مشاركة النساء في إرساء الديمقراطية على فوز الحركات الشعبية. لن تؤدي مشاركة المرأة إلى إحداث تغيير ديمقراطي وتمكين النساء إلا إذا نجحت الحركة الشعبية العامة إذاً.
قواعد الحكام المستبدين
ردّ القادة المستبدون والديمقراطيون غير الليبراليين على التهديد الذي تطرحه نشاطات المرأة السياسية بكبح التقدم في مجال المساواة بين الجنسين وحقوق المرأة. لا تقتصر دوافعهم على أسباب استراتيجية (بعضهم مقتنع على الأرجح بأفكار متحيّزة جنسياً)، لكن ترتكز رؤيتهم العالمية على تحقيق مصالحهم الشخصية.
في الدول الاستبدادية بالكامل، قد تصبح آليات القمع على أساس الجنس عنيفة ووحشية، وقد تظهر في معظم الأوقات على شكل سياسات تفرض سيطرة الدولة مباشرةً على حياة المرأة الإنجابية. قد يحصل ذلك عبر الحمل أو الإجهاض القسري، والخطابات المعادية للنساء التي تشجّع على العنف ضد المرأة أو تعتبره وضعاً طبيعياً، والقوانين والممارسات التي تُضعِف تمثيل المرأة في الحكومة أو تلغيه بالكامل وتمنع النساء من دخول سوق العمل أو إحراز التقدم فيه.
في الصين مثلاً، أطلق الرئيس شي جين بينغ حملة قمعية ضد الإيغوريين وأقليات عرقية وريفية أخرى، وفرض سياسة تنظيم النسل والإجهاض وحتى العقم على عدد كبير من النساء. اليوم، قد تضطر النساء في الأقليات العرقية لدفع الغرامات أو دخول السجن بسبب إنجاب عدد تعتبره بكين مفرطاً من الأولاد. في مصر، تسيطر الدولة على حياة المرأة الإنجابية بطريقة معاكسة، إذ يُعتبر الإجهاض غير قانوني في جميع الظروف، وتضطر المرأة لأخذ إذن القاضي كي تحصل على الطلاق، مع أن الرجل ليس مضطراً لفعل الأمر نفسه. في روسيا، حيث كان الإجهاض قانونياً في جميع الظروف منذ العام 1920، حاولت حكومة بوتين كبح انخفاض العدد السكاني عبر منع الإجهاض وإعادة ترسيخ القيم “التقليدية”. في هذه الدول الثلاث، ورغم الالتزامات الدستورية الظاهرية بحماية النساء من تداعيات التمييز بين الجنسين، تفتقر المرأة إلى التمثيل المناسب في سوق العمل والمناصب الرسمية المؤثرة.
في البلدان الأقل استبداداً، حيث يصعب فرض السياسات المتحيّزة جنسياً بشكلٍ واضح وصريح، يستعمل القادة ذوو الميول الاستبدادية وأحزابهم السياسية خطابات متحيّزة جنسياً لكسب الدعم الشعبي لأجنداتهم الرجعية، وغالباً ما يغلّفون مواقفهم بغطاء الشعبوية. هم يروّجون بهذه الطريقة لخطاباتهم المعادية للمرأة والمبنية على مفهوم “الأنوثة الوطنية” التقليدية. تظن المحللة نيتاشا كول أن هؤلاء القادة يستعملون “نزعات قومية تنمّ عن القلق وانعدام الأمان” لمعاقبة النساء وتجريدهنّ من طابعهنّ الإنساني. هم يطبّقون سياسات تضمن توسيع سيطرة الدولة على أجسام النساء حين تسنح لهم الفرصة، ويُضعِفون في الوقت نفسه مستوى الدعم للمساواة السياسية والاقتصادية بين الجنسين. كما أنهم يُشجّعون (أو حتى يشرّعون) استعباد المرأة ويطالبون بخضوع الرجال والنساء لأدوار الجنسين التقليدية انطلاقاً من واجبهم الوطني. في غضون ذلك، يتعاون هؤلاء القادة في ما بينهم لتشويه مفاهيم متنوعة مثل الإنصاف والتمكين ولتحقيق أهدافهم الخاصة. قد تختلف هذه الجهود الرامية إلى إعادة التأكيد على التسلسل الهرمي بين الجنسين بحسب اختلاف الأماكن والثقافات اليمينية، لكنها تتقاسم تكتيكاً مشتركاً واضحاً فتعطي طابعاً إيجابياً أو مميزاً لاستعباد المرأة وسط الرجال والنساء المحافِظات أيضاً.
قد ينجح القادة المستبدون وغير الليبراليين في جعل التسلسل الهرمي بين الجنسين محبذاً عبر تسييس “العائلة التقليدية” التي تصبح أداة غير مباشرة لربط قيمة المرأة بالإنجاب والأمومة وإدارة المنزل داخل الأسرة النواة، ما يعني إضعاف مطالبها باستلام جزءٍ من السلطة العامة. نتيجةً لذلك، يصبح جسم المرأة هدفاً للرقابة الاجتماعية التي يسيطر عليها مشرّعون ذكور يشيدون بنقاوة المرأة ويدعون الأمهات والبنات والزوجات إلى الإنجاب وإنشاء نسخة مثالية من الأمة. اعتبر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المرأة غير مساوية للرجل، وأعلن أن دورها في المجتمع يقتصر على الأمومة وإدارة المنزل. حتى أنه اعتبر المرأة التي تفضّل العمل على الأمومة “ناقصة”. كذلك، شجّعت حكومة رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان النساء على وقف محاولات سد الفجوة في الأجور والتركيز على إنجاب أولاد مجريين.
في جميع أوساط الأنظمة الاستبدادية أو شبه الاستبدادية، غالباً ما تتعرّض الأقليات الجنسية لسوء المعاملة أيضاً. تعتبر هذه الأوساط السحاقيات، والمثليين، وثنائيّي الجنس، والمتحولين جنسياً أداة لإضعاف التسلسل الهرمي بين الجنسين، وهو مفهوم يشيد به عدد كبير من الحكام المستبدين. نتيجةً لذلك، تتعرّض هذه الفئة من المجتمع للتهميش المتكرر وتحمل وصمة عار دائمة بسبب السياسات المعادية للمثليين، منها إنشاء “مناطق خالية من المثليين” في بولندا مثلاً، أو منع زواج المثليين أو الحملات الدعائية الداعمة لهم في روسيا. كذلك، ذهبت بكين حديثاً إلى حدّ منع الرجال من الظهور بطريقة “مخنّثة” على التلفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي في خضم حملة تهدف إلى ترسيخ “الثقافة الثورية” في الصين.
على صعيد آخر، قد ينجح الحكام المستبدون الراهنون أو المحتملون في تجنيد المرأة كلاعبة أساسية في حركاتهم السياسية رغم كرههم الفاضح للنساء (أو بسبب هذا الكره في بعض الحالات). هم يستعرضون زوجاتهم وبناتهم في الأوساط المحلية أو في المناصب الرسمية أحياناً لإخفاء حقيقة السياسات المبنية على غياب المساواة بين الجنسين. تقدّر المرأة المحافِظة مثلاً معنى الأمومة التقليدية، وغالباً ما تؤدّي دوراً مساعِداً للرجل الذي يبقى النجم الأوحد في هذا المشهد الاستعراضي. قد يكون الصراع بين الحركات النسائية التي دعمت أو عارضت حملة خافيير بولسونارو الرئاسية في البرازيل، في العام 2018، أفضل تجسيد لهذه الدينامية الراسخة. نظّم معارضو بولسونارو واحدة من أكبر الحركات الاحتجاجية التي تقودها النساء في تاريخ البلد تحت شعار “إلا هو”. في المقابل، لفّت النساء المناصرات له أجسامهنّ بالعلم البرازيلي واعتبرن الحركة النسوية “متحيّزة جنسياً”.