إيران وإعادة الحسابات
بقلم: حسن فحص

النشرة الدولية –

لم يسبق أن واجه النظام الإيراني صدمة بهذا الحجم في المفاوضات النووية الحالية أو السابقة (2013-2015)، كالتي أحدثتها صدمة تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف التي طالب فيها الجانب الأميركي بالحصول على ضمانات مكتوبة بعدم عرقلة الأنشطة التجارية والاقتصادية والعسكرية والاستثمارات بين بلاده وإيران بعد التوقيع على الاتفاق الجديد، وأن لا تدرج هذه العلاقة ضمن العقوبات التي فرضتها واشنطن والدول الغربية على روسيا، نتيجة الأزمة الأوكرانية والعملية العسكرية التي تقوم بها موسكو في هذا البلد.

استخدم لافروف آخر ورقة في جعبته لوضع العراقيل أمام المسار الإيجابي الذي أخذته المفاوضات الجارية في فيينا بين إيران ومجموعة “4+1” وواشنطن، وقرر الخروج عن الآليات السابقة التي استخدمها عام 2015 لعرقلة الاتفاق، ولم تخرج إلى العلن إلا بعد كلام وزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف في التسريب الصوتي الشهير، الذي أكد فيه جهوداً روسية بقيادة لافروف لعرقلة التوقيع، وصولاً إلى غيابه عن الصورة الرسمية لحفل التوقيع حينها.

الرصاصة التي انطلقت من مسدس لافروف، تشبه إلى حد كبير تلك الرصاصة التي تخرج من المسدس المستخدم في الرهانات الروسية المميتة والقاتلة التي يُطلق عليها اسم “الروليت الروسية”.

فلافروف قلب اللعبة، ولم يعُد هو صاحب الرهان ومن ستُطلَق على صدغه أو رأسه الرصاصة، بل الصديق الإيراني، مع فارق جوهري وتغيير قواعد اللعب، بأن بقي ممسكاً بالمسدس ووضع يده على الزناد وأطلق باتجاه طهران، مدركاً أنها ستكون قاتلة بنسبة نجاة تقارب الصفر، إلا أن رهانه لا يقف عند المخاطرة بمصالحه، بالتالي يكون قد طبّق المقولة المشهورة “عليَّ وعلى أعدائي”. وقطع الطريق على إيران ومعها الدول المفاوضة لجهة توظيف الاتفاق ونتائجه للالتفاف على الأزمة الناتجة من العقوبات التي فُرضت على روسيا، ومنع مسار التراجع في اقتصاداتها واقتصادات الدول الأخرى، بخاصة في قطاعي الغاز والنفط.

إلا أن رصاصة “الروليت” التي أطلقها لافروف على الاتفاق، والتي قد تؤدي إلى تأجيله أو تعليقه، كان يدرك أنها ستكمل طريقها وتصل إليه وتصيبه بأضرار لا تقل عن تلك التي ستصيب الصديق الإيراني، لأن إطاحة الاتفاق بأي شكل كان ذلك، سيطيح أيضاً الرهانات الروسية على الدور المستقبلي لإيران ما بعد الاتفاق، بخاصة أنه كان صريحاً في توضيح هذه الرهانات كمسوغ للضمانات التي طالبت واشنطن بالحصول عليها.

طهران والنظام شعرا بحرارة الجرح الذي أصابهما نتيجة هذا الموقف الروسي، ما دفع جميع المسؤولين فيه إلى التوقف كثيراً أمام تداعياته، بخاصة أن المفاوضات وصلت إلى مراحلها الأخيرة وأن النقاط العالقة لا تصل إلى عدد أصابع اليد الواحدة، بحسب تعبير المتحدث باسم الخارجية سعيد خطيب زاده.

الأمر الذي فرض على كبير المفاوضين علي باقري كني العودة إلى طهران على وجه السرعة، إذ لم يمضِ على مغادرته لها أكثر من يومين باتجاه فيينا، حاملاً معه تفويضاً سياسياً بإنهاء النقاط العالقة والتوقيع المبدئي بانتظار وصول وزير الخارجية الذي بدأ يُعدّ حقيبته للانضمام إلى نظرائه الغربيين في حلف التوقيع الرسمي.

وإذا ما كانت طهران تراهن على أن تكون عاملاً مساعداً لموسكو في الالتفاف على العقوبات وما في ذلك من مكاسب وعائدات اقتصادية ومالية، إلا أن عرقلة الاتفاق تطيح أيضاً الآمال الإيرانية ورهانات النظام بالخروج من العقوبات المفروضة عليه، واستعادة موقعه ودوره وحصّته في الأسواق العالمية للطاقة، بخاصة في هذه المرحلة الدقيقة والحساسة، فضلاً عن إعادة الاندماج في الاقتصادات العالمية، وما يعنيه ذلك لناحية الخروج من أزمته الداخلية التي وصلت إلى مستويات أرهقت مختلف طبقات المجتمع الإيراني والحياة اليومية والمعيشية والمصالح الاقتصادية، وباتت تهدد استقراره وأمنه الاستراتيجي.

هذه المخاوف، دفعت الوزير حسين أمير عبد اللهيان إلى الرد على نظيره الروسي مباشرة، والتأكيد أن إيران لن تسمح لأي طرف بالتأثير في مصالحها القومية والوطنية وحقوق الشعب الإيراني، معتبراً أن تداعيات الأزمة الأوكرانية لا علاقة لها ولا ترتبط بالمفاوضات النووية وإعادة إحياء الاتفاق.

هذا التعقيد المستجد والمتوقع، أعاد إلى الواجهة الأصوات الداخلية المنتقدة والمعارضة للاتفاق والمفاوضات. فمن ناحية، أحيت المواقف الروسية مجدداً الأصوات الإصلاحية التي عارضت وتعارض المسار الذي أخذته السياسة الخارجية الإيرانية في الأعوام الأخيرة وترجيح التوجه نحو الشرق ووضع كل البيض الإيراني في السلّتين الروسية والصينية، على حساب مبدأ التوازن مع الدول الغربية وتوزيع الاستثمارات بين المعسكرين لضمان الحصول على خيارات أوسع لترميم الاقتصاد بكل قطاعاته المتهالكة.

في المقابل، كسرت بعض القوى المحافظة، (بخاصة الجناح المتشدد “الصمود”) حاجز الصمت الذي فُرض عليها، ورفعت صوتها بإعلان معارضتها المفاوضات والمطالبة بوقفها، متهمة الفريق المفاوض بأنه سيعيد إحياء الاتفاق السابق “اتفاق ظريف”، بحسب توصيفها، وبشكل أسوأ من قبل على حساب المصالح الوطنية وتعطيل البرنامج النووي والتخلي عن الإنجازات التي تحققت في هذا المجال.

آمال كثيرة وكبيرة علّقتها حكومة إبراهيم رئيسي ومعه النظام بالتوصل إلى هذا الاتفاق، معتمدين على ضوء أخضر صريح من المرشد بضرورة التوصل إلى هذا الاتفاق بالشروط الإيرانية، إلا أن الموقف الروسي، وإمكانية أن يعطي الجانب الأميركي الذريعة أو المدخل للاستمرار في المماطلة والتردد في اتخاذ الخطوة الأخيرة، عاد وكبح هذه الآمال، بخاصة أن الحديث داخل الأروقة الإيرانية الرسمية والاقتصادية انصبّ في الأيام الأخيرة على قدرة طهران واستطاعتها ملء الفراغ في قطاع الطاقة العالمي وحجم المكاسب التي ستحققها من ذلك، بما يعزز دورها وموقعها على الساحة الدولية والإقليمية ويجعل منها رقماً مهماً في المعادلات السياسية والاقتصادية.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى