غزو روسيا لأوكرانيا: هل دقّت ساعة بدء التسوية؟
بقلم: فارس خشان
النشرة الدولية –
اليوم الخميس لن يكون عابراً في مسار الحرب الروسية على أوكرانيا، إذ من المقدّر له أن يكون محطة مهمة للغاية في حسم الاتجاهات، إمّا نحو بداية “تلطيف” العمليات العسكرية الهجومية وإمّا نحو “تعنيفها” إلى مستويات دموية غير مسبوقة.
والمعطيات التي تتزامن مع حدثين بالغَي الأهمية تستضيفهما، اليوم أنطاليا التركية وفرساي الفرنسية، تسمح بفتح النقاش حول مآل الحرب الروسية على أوكرانيا، في ضوء “صدمات” زعيمي البلدين!
إنّ الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لم يهرب من مواجهة الهجوم “القيصري”، كما كان قد فعل زميله الموالي لروسيا فيكتور لانوكوفيتش، في 22 شباط (فبراير) 2014، عندما فشل في قمع “ثورة الميدان” ولا انقلب عليه الجيش الأوكراني، كما كان يرجو فلاديمير بوتين، عندما أعطى الضوء الأخضر لبدء اجتياح أوكرانيا في الرابع والعشرين من شباط (فبراير) الماضي، أي في الذكرى السنوية الثامنة لانتصار “الهوى الأوروبي” على “الإرادة الروسية”، في الجمهورية السوفياتية سابقاً.
لكنّ روح المواجهة التي تميّز زيلينسكي، لم تمنعه، وهو يحصي الكوارث ويتأمّل في الحقائق، من إيجاد ثغرة ليعبر منها الى “الواقعية السياسية” التي تحتّم عليه تقديم تنازلات لمصلحة “الحدّ من الخسائر”.
وهذه الواقعية السياسية، وعلى الرغم من “ورم القوة” الذي يعتمل في رأسه، فرضت نفسها، أيضاً، على فلاديمير بوتين الذي واجه مقاومة أوكرانية أقوى بأضعاف من تلك التي توقّعها، و”رخاوة” دولية أقل بكثير من تلك التي تصوّرها، فلا عدوّه الأوكراني كان أشرف غنّي الأفغانستاني، ولا الشعب الأوكراني خرج لاستقبال جيشه الغازي بالرز والورود، ولا الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي وحلفاؤهما تصرّفوا كما سبق أن فعلوا يوم ضمّ، في العام 2014 شبه جزيرة القرم وقاد حرباً مفتوحة في إقليم دونباس، في ردّ مباشر على انتصار “ثورة الميدان”. هذه المرّة، لم يتّخذ هؤلاء قرارات رفع عتب، بل أعلنوا حرباً مالية واقتصادية وإعلامية وعاطفية وسيكولوجية حقيقية ضدّه وضد اللوبي التي يُوفّر استمراريته السلطوية.
وإذا كان من شأن هذه الحقائق أن “تُبرّد” رأس فلاديمير بوتين، إلّا أنّها لا يمكن أن “تحمّي” رأس فولوديمير زيلينسكي الذي لم يستطع، من أجل تعزيز مقاومة الاجتياح الروسي” إقناع “حلف شمال الأطلسي” بتوفير مظلّة جوّية فوق بلاده، على الرغم من نداءاته المتكرّرة التي صيغت، في غالبيتها، بأدبيات الإستغاثة.
لقد وصل زيلينسكي الى قناعة تامة بأنّ “حلف شمال الأطلسي” بقيادة الولايات المتحدة الأميركية مستعد أن يقاتل فلاديمير بوتين حتى آخر مواطن أوكراني، ولكنّه غير مستعد أن يخسر في مواجهته جندياً واحداً.
في ظل هذه القناعة المشتركة لدى فولودومير الأوركراني وفلاديمير الروسي، ينعقد، اليوم الخميس اجتماعان، في غاية الأهمية: الأوّل في أنطاليا التركية يضع وجهاً لوجه وزيري الخارجية الروسي سيرغي لافروف والأوكراني دميترو كوليبا، في حضور نظيرهما التركي مولود تشاووس أوغلو، والثاني في قصر فرساي الفرنسي التاريخي حيث يعقد قادة دول الاتحاد الأوروبي السبع والعشرين، قمّة غير رسمية.
ولعلّ ما يعرفه القادة الأوكرانيون عن المدى الذي يمكن أن تذهب إليه القمة الأوروبية بما يختص بالحرب التي تتعرّض لها بلادهم، سوف ينعكس على لقاء رئيس دبلوماسيتهم، وهو الأوّل من نوعه، مع رئيس الدبلوماسية الروسية في أنطاليا.
التمهيد الأوكراني-الروسي لاجتماع أنطاليا لا يمكن القفز فوق معانيه، فزيلينسكي استبقه بإعلانه لشبكة “آي.بي.سي” الأميركية أنّه لم يعد متمسّكاً بطلب انضمام بلاده الى”حلف شمال الأطلسي”، وأنّه بات مستعداً للتوصّل الى تسوية في خصوص إنفصاليي إقليم دونباس في شرق أوركرانيا.
وهاتان خطوتان غاليتان على قلب فلاديمير بوتين.
في المقابل، أعلنت موسكو، وعلى لسان الناطقة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا أنّها لا تهدف الى تغيير الحكومة الأوكرانية، في لفتة اعتبرت تراجعاً عن قائمة الأهداف التي حدّدها بوتين لغزو أوكرانيا.
ولكن هذه الخطوات الأوكرانية-الروسية التي تحتاج، بذاتها، الى عناية كبيرة بالتفاصيل، غير قابلة لحسم كل أوجه المشاكل الروسية-الأوكرانية، إذ إنّ موسكو ترفض انضمام كييف الى الاتحاد الأوروبي، وقد زادتها الخطوات الأوروبية “القوية” و”الصادمة” و”المفاجئة” ضدّها قناعة بذلك.
وعليه، فإنّ الأنظار سوف تتسلّط على قرارات “قمة فرساي” التي سوف تدرس طلب أوكرانيا الانضمام الى الاتحاد الأوروبي، بموجب إجراءات استثنائية، نظراً لاستثنائية الظرف الأوكراني نفسه.
من حيث المبدأ يعرف زيلينسكي أنّ قبول طلبه قد يكون مستحيلاً، لأنّه يفتقد الى الإجماع الضروري، خصوصاً في ظل معارضة سابقة سجّلتها كل من فرنسا وهولندا، وتالياً، إذا لم يحظ بالاستثناء الواجب، فإنّ أحداً لا يضمن أن يتراجع عن طلبه كما سبق أن فعل بخصوص طلب الانضمام الى “حلف شمال الأطلسي”.
وفي هذه الحال، فإنّ “قمة فرساي” قد تعطي الرئيس الأوكراني زخماً إضافياً من أجل توسيع رقعة “الواقعية السياسية” في التعاطي مع “الشروط الممكنة” لفلاديمير بوتين.
ولكنّ عدم السير بضم أوكرانيا الى “الاتّحاد الأوروبي” لن “يحمّي” رأس بوتين، لأنّ المعلومات المؤكدة تلفت الى أنّ “قمة فرساي” سوف تقدّم “جائزة ترضية” لأوكرانيا، من خلال تقديم عرض إليها بإنشاء نوع من الشراكة الكاملة مع “الاتحاد الأوروبي”.
وهذه “الشراكة الكاملة” تعني، بالنسبة لبوتين، مدّ الشعب الأوكراني بمقوّمات المقاومة والصمود، في وجه الغزو الروسي، بحيث تتحوّل الأرض الأوكرانية، ولو انتصر الغزو الروسي، الى رمال متحرّكة ليس تحت أقدام الجيش الروسي فحسب بل تحت عرش بوتين نفسه، أيضاً.
و”قمة فرساي” التي فرضت أوضاع أوكرانيا نفسها عليها، سوف توسّع من دائرة المواجهة المفتوحة مع روسيا، ذلك أنّ ما أقدم عليه فلاديمير بوتين وحّد الأوروبيين، وهذه المرّة بدعم أميركي غير مسبوق، لتحقيق هدفين طالما بدوَا مستحيلَين: بذل كل ما يمكن من أجل استقلالية أوروبية عن الغاز الروسي، وخلق آلية عسكرية أوروبية مستقلّة وفاعلة من أجل الدفاع عن سيادتها وعن مصالحها وعن قوتها.
على أيّ حال، يغامر كلّ محلّل يظن أنّ المعطيات “العقلانية” المتوافرة، حتى تاريخه، من شأنها أن توقف الحرب الروسية على أوكرانيا، على اعتبار أنّ جميع من يدّعون دراستهم لشخصية فلاديمير بوتين يجزمون بأنّه لن يرضى بأقلّ من نصر “ساحق ماحق”، ولكن، في المقابل، فإنّ كلّ محلّل يذهب في التعاطي مع بوتين كما لو أنّه نسخة مستحدثة عن الزعيم النازي أدولف هتلر، وفق ما تسعى إليه الدعاية الغربية، يغامر في إهمال الأدلّة على أنّ الزمن الجيواستراتيجي، ولو بدا أنّه تقهقهر، إلّا أنّه لم يعد، بهذه التراجيدية، تسعين سنة الى الوراء.