غاب الردع فنشبت الحرب: لا وسطاء في معركة أوكرانيا
بقلم: طوني فرنسيس

خرق بوتين منطق التوازنات الدولية الذي ساد زمن الاتحاد السوفياتي وبعد زواله

النشرة الدولية –

تستمر حرب أوكرانيا بلا آفاق تسوية تضع حداً لمسلسل الدمار والقتل والتهجير، ويستمر الانقسام الدولي في تفاقمه من دون أن ينتج مخارج أو أفكاراً للخروج من أخطر أزمة تواجه العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتفرد أميركا بقيادة العالم.

خرق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منطق التوازنات الدولية الذي ساد في زمن الاتحاد السوفياتي وبعد زواله، واختار نقطة حساسة لامتحان خصومه الغربيين، كان الغرب اختارها بدوره لامتحان القيادة الروسية، فأوكرانيا ليست مجرد دولة سابقة في المعسكر السوفياتي مثل الدول الأخرى في أوروبا الشرقية. إنها دولة “روسية” و”سوفياتية” بمعنى ما، منها خرجت قيادات الاتحاد السوفياتي التي حكمته، وضمناً حكمت روسيا منذ وفاة ستالين الجيورجي (1953) وحتى رحيل بريجنيف (1985)، وهي في واقعها وحجمها ومواردها ومستقبلها تختصر مصائر بلدان أخرى من دول البلطيق شمالاً إلى مولدوڤا جنوباً.

استهلك الحديث عن الغزو الروسي لدولة مستقلة ذات سيادة كثيراً من التصريحات والمواقف، ودارت حوله نقاشات في الهيئات الدولية وعلى مستوى دول العالم.

الغالبية الساحقة من تلك الدول لم تدعم، بل دانت الهجوم الروسي وتمسكت بأوكرانيا المستقلة، وانصرف الغرب إلى استقبال ملايين اللاجئين منها، وتوفير وسائل الدعم العسكري لحكومتها في مواجهة الجيش الروسي، لكن ليس ما يحصل هو ما كان ينتظره العالم في مطلع الخمس الثاني من القرن الـ 21.

كان مبدأ سيادة الدول محترماً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وحتى في أحلك ظروف التوتر بين المعسكرين الشرقي والغربي بقيت سيادة الدول عنواناً أساساً في السياسة الدولية. في فيتنام رضخت أميركا بعد قتال طويل ضد ثوار الشمال وانتفاضة الجنوب، وفي الكويت تجمع العالم ضد غزو صدام حسين لجارته الشقيقة، وفي لبنان الذي عانى غزواً إسرائيلياً واحتلالاً سورياً وتدخلات شتى بقي التعاطي الدولي معه قائماً تحت عنوان التمسك “باستقلال وسيادة لبنان”.

في مرحلة ما بعد انهيار نظام القطبين كان يفترض أن تتماشى مبادئ سيادة الدول مع التطور الدولي الهائل في مجالات التجارة وتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، لم تمنع المشاعر القومية دول الاتحاد الأوروبي من تعزيز تقاربها ووحدة اتحادها على قاعدة توفير الازدهار المشترك لشعوبها، لكن في مناطق أخرى من العالم لم تتقدم الأمور على نمط مماثل، الديمقراطيات الغربية تعرضت لهزات في عقر دارها الأميركي، وزادت نسبة الانقلابات في أفريقيا وفي الصين، الدولة الشيوعية الكبرى، ترافق النهوض الاقتصادي مع ميل إلى تعزيز القيادة الفردية، وهو ما سعى إليه بوتين في تعديلاته الدستورية.

بدا العالم في بعض تجلياته ميالاً إلى اعتماد نماذج من الحكم تمت تجربتها في أنظمة مقفلة، لم يعد المرشد وحده في الساحة بعد غياب طغاة تاريخيين. نموذج كيم جونغ إيل الذي صنع لنفسه صورة مؤلف 1500 كتاب، الذي لا يحتاج إلى مرحاض وأوقف الغيم في طفولته، صار مدرسة لحكام آخرين أقوى ويتمتعون بقدرات أوسع.

في نموذج أوكرانيا ظهرت نتائج عوارض تفسخ النظام العالمي وميول أركانه في أوضح الصور. في بوتين الذي نسج حول شخصه الأساطير، وفي الديمقراطيات التي تزعم مواجهته بعد تصنيفه خطراً عليها. لم تقدم أميركا بعد 20 سنة من الحرب المفتوحة على الإرهاب الدولي نموذجاً سياسياً صلباً في احترام المصالح الحقيقية للشعوب، وترهلت أوروبا وحلف الأطلسي فيما كانت دول العالم تنتظر على قارعة الطريق.

كان يفترض أن يتمسك الغرب بمزايا الردع المعنوي، والقوة أساس فيه، لمنع مشكلة مثل مشكلة أوكرانيا من الاندلاع، وليس الانتظار والاكتفاء بتسجيل النقاط بعد الاستسلام المطلق بالإعلان عن رفض التدخل خارج أراضي حلف الأطلسي، مما يعني تشجيع بوتين على المضي في عمليته. فعلت أوروبا وأميركا ما أراده الرئيس الروسي بالضبط. أعلنتا موعد الغزو ثم تابعتا المعارك في بيانات تصدر عن الـ “بنتاغون” ووزارة الدفاع البريطانية، وتجمع معسكر الغرب في مواجهة خصمه “المستبد الشرقي”.

انقسم العالم ولم يعد فيه مكان للوساطات، فحتى اللحظة وبعد 20 يوماً من بدء أخطر حرب عالمية لا وجود لوسطاء فعليين، والمفاوضات الوحيدة هي تلك التي يجريها الأوكران مع الروس تحت وابل القذائف.

جعلت الحرب دول العالم تبحث عن مصالحها الفعلية في ظل انقسام غير واضح النتائج، فأصدقاء الغرب لا يثقون بما ستفعله أميركا بعد انسحابها من أفغانستان وحرصها على الاتفاق مع إيران واكتفائها بدعوة العالم إلى فرض العقوبات ضد روسيا، فيما أصدقاء روسيا من الصين إلى إيران لا يبدون ارتياحاً إلى مغامرتها الأوكرانية وموقفها المستجد من مفاوضات فيينا، الذي أسهم كما قيل بإفشال التوقيع على نسخة جاهزة من الاتفاق النووي.

إسرائيل وتركيا وحدهما تقدمتا بمحاولة وساطة، قبل 14 عاماً كان بوتين قد حدد الدولتين كأقرب شريكين له في الشرق الأوسط، إسرائيل في الأمن وتركيا في الاقتصاد، لكن الوساطة التركية اختتمت في أنطاليا، بينما انتهت وساطة رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت إلى طلبه من الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي الاستجابة لمطالب بوتين.

إنها إسرائيل، الحليف الأقرب إلى أميركا، تكتشف أن مصلحتها تأتي أولاً، وفي رأس مصالحها التعاون مع روسيا في سوريا، أما الحرب في أوكرانيا فستستمر بمتابعة أميركية وتمسك روسي بالأهداف منها، فيما العالم ينتظر صورته الجديدة على أنقاض بلد مدمر.

 

 

Back to top button