رسائل نصف مشفرة
بقلم: مصطفى أبو لبدة

إرم نيوز –

عندما يزدحم الفضاء السياسي بالرسائل نصف المشفّرة، كما هو فضاء الشرق الأوسط الآن، فإنه يعطي إشارة مفهومة بأن المنطقة مأزومة بدرجة أكبر مما يبدو، وأن طريقة اللعب التقليدية تغيّرت، وبالتالي استعِدّوا للذي لا أحد يعرف مآلاته وكيف أو متى سينتهي.

حصل هذا عندما تحوّل الغزو الروسي لأوكرانيا من ”حرب الخيار“ بين موسكو ودول حلف الأطلسي (أوروبا والولايات المتحدة) إلى ”حرب الضرورة“، وهي النفطية التي أطلقتها واشنطن بمقاطعة البترول والغاز الروسي، فأحدثت بذلك صدمة طاقة وحرباً أممية باردة يتوسطها الشرق الأوسط، كونه المصدر الأكبر للنفط ويتحمل مسؤولية استقرار الاقتصاد في عالم لا سلطان له عليه.

أدوات الصدمة النفطية التي صنعتها الولايات المتحدة هذه المرة، هي معادلة الإنتاج والأسعار التي تحكم السوق، أعلنت واشنطن مقاطعتها للنفط والغاز الروسيين، فانفلتت الأسعار، ليبدأ بحثها مع دول الخليج عن البدائل التعويضية، وهي تعرف أن ذلك غير متاح إلا في حدود ضيقة، وبأثمان سياسية مستحقة.

كان يمكن لـ“حرب الضرورة“ النفطية أن تكون أكثر اتساقاً ووضوحاً، لو أن الإدارة الامريكية في عهد الرئيس جو بايدن لم تهدر موثوقيتها ولم تفقد هيبتها التقليدية في إقليم ظل محسوباً لها وعليها منذ ستينيات القرن الماضي.

أهدرت الإدارة الأمريكية موثوقيتها في الشرق الأوسط عبر سلسلة موصولة من المواقف، أصعبها على الهضم أو الفهم، الخاصة بحجم تنازلاتها المجانية لإيران في ملفات النووي والأسلحة البالستية والإرهاب والتدخل في أمن وسيادة دول الجوار العربية.

مَنْ كان يتصور أن واشنطن يمكن أن تفكر أو تعرض على طهران رفع العقوبات عن الحرس الثوري في مقابل التعهد بعدم التصعيد؟ ”تهاونٌ يشارف حدود المهانة“ حسب توصيفات سُمعتْ مرارا في واشنطن.

واشنطن تخلّت عن حلفائها عندما تعرضوا للاختراقات الأمنية بالمسيّرات الإيرانية، حتى إذا احتاجت إليهم في ”حرب الضرورة“ النفطية الحالية، ليرفعوا إنتاجهم ويكبحوا انفلات أسعار البنزين، الذي أثار الناخب الأمريكي، وهدد فرص الحزب الديمقراطي الحاكم في الانتخابات المقبلة، لم يجد الرئيس بايدن سوى بوريس جونسون، رئيس الوزراء البريطاني، ليبعثه إلى الخليج ليتوسط.

هذه واحدة من مجموعة رسائل نصف مشفّرة ازدحم بها الفضاء السياسي الإقليمي خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، وكانت إشارة مفهومة بأن طريقة اللعب في الشرق الأوسط تغيّرت، وأن الحرب العالمية الباردة التي أطلقتها غزوة أوكرانيا، ستكون لها تجلّيات خارج السياق المعهود.

رسالة ثانية، وبقوة أوْزن، كانت الحديث عن زيارة محتملة للرئيس الصيني إلى الرياض، وفي توقيت لا يترك مجالاً للشك بأن قواعد اللعبة في الشرق الأوسط تغيّرت.

رسالة ثالثة ضمن المشهد الإقليمي الجديد ذاته، كانت زيارة الرئيس الإسرائيلي إسحق هيرتسوغ لتركيا الأسبوع الماضي؛ الزيارة تضمنت برمجة لفتح صفحة جديدة في العلاقات بين أنقرة وتل ابيب، وسّعت بها القيادة التركية استدارتها المنهجية مع دول المنطقة، بعد أن أنهت عشر سنوات من المناكفة الخشنة مع بضع عواصم عربية رئيسة.

بدا الأمر مِن بعض الزوايا وكأنه انحياز تركي إلى رعاة الانتقال في الشرق الأوسط إلى مرحلة التعايش القائم على المصالح الوطنية والقواسم المشتركة.

تركيا لم تترك سرًّا في أنها تريد أن تنضم إلى نادي دول شرق المتوسط في مشروع نقل الغاز من حقولها البحرية إلى أوروبا ليكون بديلاً محتملاً للغاز الروسي.

وهي في هذه الرسالة، التي أطلقتها بترحاب استثنائي بالرئيس الإسرائيلي، أفصحت أنها مستعدة لأن تتحمل عواقب غضب موسكو، وأن تقترب خطوتين من واشنطن لتبريد علاقات اتسمت، على مدار بضع سنوات من الجفوة والمقاطعة الانتقائية.

رسالة سياسية رابعة أطلقتها هذه المرة واشنطن في سياقات حرب الضرورة النفطية، تمثّلتْ في تصنيف قطر حليفا رئيسا للولايات المتحدة من خارج الناتو، وكانت في هذا القرار توثق لإحياء مشروع قديم عمره عشرون عاماً، يراد منه للغاز القطري أن يكون أحد البدائل للغاز الروسي الذي تستخدمه أوروبا في 40% من احتياجاتها للطاقة.

إيران أيضاً لم تغب عن مهرجان الرسائل المتقاطعة التي شهدها الفضاء الإقليمي في الموازاة والتزامن مع الحرب على أوكرانيا، فقد أعلن الحرس الثوري الإيراني مسؤوليته عن هجوم صاروخي طال عاصمة إقليم كردستان العراق مدينة أربيل بدعوى استهداف مصلحة إسرائيلية.

كانت رسالة واضحة على أن إيران مستعدة للتصعيد إذا شعرت بالتهديد، سواء تهديد الاتفاق النووي أو الأعمال القتالية المتبادلة بينها وبين الإسرائيليين والولايات المتحدة، أو حتى تهديد حصة وكلائها في العراق بتشكيل الحكومة العراقية.. كانت بضع رسائل سياسية في رسالة متفجرة.

واضحٌ أن قواعد اللعب في المنطقة تغيّرت.. ”حرب ضرورة“ قسرية ذخيرتها النفط، جديدها أن دول المنطقة مضطرة لأن تتولى أمنها بيدها بعد أن انسحب الغطاء الأمريكي وفقدت واشنطن ما هو أكثر من الثقة والمصداقية مع الذين كانوا حلفاءها.. كأنه نظام إقليمي جديد قائم على تعايش ما زالت إيران ترفضه، وقوانينه تُكتب بالرسائل نصف المشفرة.

زر الذهاب إلى الأعلى