المرتزقة: وجه آخر لقيم الديمقراطية والعدالة الغربية
بقلم: د. سنية الحسيني
النشرة الدولية –
تصاعد مؤخراً تداول مصطلح «المرتزقة» في إطار الحرب الروسية الأوكرانية، والذي بدأ بعد إبداء أوكرانيا نيتها استقدام مقاتلين أجانب لمساعدة جيشها النظامي في حربها ضد روسيا. ويعتبر استخدام أوكرانيا المرتزقة أداة أخرى من أدوات محاربة الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين لروسيا، وبابا خلفيا للمشاركة العسكرية غير المباشرة في الحرب، هذا بالإضافة إلى مساعداتها العسكرية والاقتصادية السخية. ورغم أن فكرة استخدام المرتزقة قديمة قدم التاريخ، وتراجعت بوضوح في العصر الحديث، وتحديداً بظهور الدولة القومية وتبلور فكرة سيادة الدول، إلا أن الولايات المتحدة والدول الغربية أعادت ابتداءً من جديد خلال الحرب الباردة، وطورتها بعد أحداث ١١ أيلول، وخلال الثورات العربية، والآن في أوكرانيا لمواجهة روسيا.
إن العالم الذي يعبث فيه المرتزقة والشركات الأمنية الخاصة العابرة للحدود عالم غير آمن، ويمهد الطريق لظهور جماعات إرهابية لا تخضع لمبادئ العدالة وقواعد القانون. وتشهد الانقلابات والحروب الأهلية في إفريقيا وظهور تنظيم القاعدة في أفغانستان خلال فترة الحرب الباردة، وظهور «داعش» وغيرها من الجماعات بعد ١١ أيلول على ذلك. ويعيد الإعلام الغربي، الذي يشيطن النظام الروسي الآن، تذكيرنا بتلك الحقبة التي شيطنت فيها الولايات المتحدة نظام طالبان في أفغانستان ونظام الرئيس صدام حسين في العراق، كمقدمة لغزو البلدين، والذي أنتج ظهور المرتزقة والشركات الأمنية الغربية التي تقوم بتجنيد هؤلاء في تلك البلدان، وكلها أدوات تسخرها الدول الغربية لخدمة أهدافها الخاصة، فهل يكون مصير أوكرانيا مشابها لمصير بلدان الشرق الأوسط التي طال أمد الحروب فيها، تحقيقاً لمصلحة غربية خالصة، وعلى حساب الشعب الأوكراني هذه المرة؟
بدأت أوكرانيا أواخر الشهر الماضي بالإعلان عن نيتها استقدام مقاتلين أجانب ليحاربوا إلى جانب الجيش النظامي الأوكراني في معركتهم القائمة حالياً مع روسيا. وبالفعل، أعلن فولوديمير زيلنسكي الرئيس الأوكراني عن نيته إنشاء فيلق من المتطوعين من خارج البلاد، ونشرت الصحف إعلانات لشركات مقاولات عسكرية تطلب فيها مقاتلين متفرغين يجيدون القتال بمكافآت مالية كبيرة. وبسرعة منقطعة النظير.
جاء هذا الإعلان بعد التحرك السريع باتجاه تجنيد مقاتلين من جنود أميركيين سابقين وغربيين من بريطانيا وبولندا وأستراليا ومناطق أخرى، بالإضافة إلى التوجه نحو الشرق الأوسط لتجنيد مرتزقة يعملون في سورية، خصوصاً في منطقة إدلب، أغلبهم من جماعات تنتمي لتنظيمات إرهابية مثل «داعش» والقاعدة، وتجنيد آخرين من قارة إفريقيا، التي تعاني معظم بلدانها أوضاعاً اقتصادية متعثرة.
في المقابل، أعلن الرئيس فلاديمير بوتين نية بلاده استقدام مقاتلين متطوعين من الشرق الأوسط خصوصاً من سورية، مركزاً على فكرة أن التطوع يكون دون مكافآت مالية، بما يتناقض مع هؤلاء الذين يستأجرون للقتال بالمال والذي يقصد بهم المرتزقة. إلا أن دخول المرتزقة أو حتى المتطوعين إلى الحرب الروسية الأوكرانية الحالية قد لا يصب في مصلحة روسيا، إذ قد يطيل أمد الحرب بما يفاقم تأثير العقوبات الاقتصادية ويستنزف قدرات روسيا العسكرية. وتسعى الولايات المتحدة إلى المشاركة غير المباشرة في الحرب لترجيح كفة أوكرانيا على حساب روسيا، ولتوجيه ضربة عسكرية مؤذية لعدوتها التاريخية اللدودة، وبدء ذلك بشكل غير عسكري ودون تدخل مباشر في الحرب، يحملها تبعات تدخلها، من خلال الاكتفاء فقط بالمساعدات العسكرية والمالية والعقوبات الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية. إلا أن فتح باب تجنيد المرتزقة للقتال إلى جانب الأوكرانيين يعني التدخل العسكري غير المباشر في القتال، ومن الباب الخلفي. ولجأت الولايات المتحدة في الماضي وخلال الحرب الباردة لمحاربة الاتحاد السوفيتي في أفغانستان عبر تجنيد ودعم مقاتلين ما استنزف القدرات السوفيتية، وكان ذلك من بين أسباب انهيار الاتحاد السوفيتي. ويبدو أن الولايات المتحدة تريد أن تستعيد تجربة الماضي، إلا أن ذلك أنتج في النهاية أيضاً ظهور تنظيم القاعدة الإرهابي، الذي دفعت شعوب منطقة الشرق الأوسط افدح الأثمان بسببه.
بعد ظهور مؤتمر ويستفاليا والمعاهدة التي نتجت عنه، وحملت ذات الاسم، في أواسط القرن السابع عشر، والذي جاء لوقف الحروب الدينية في أوروبا، في أعقاب بروز وفكرة القومية، حيث تبلور خلال هذا المؤتمر مبدأ سيادة الدول، تخلصت البلاد الغربية بشكل كبير من استخدام المرتزقة في القتال. إلا أن الولايات المتحدة سرعان ما أعادت إحياء استخدام المرتزقة خلال الحرب الباردة، والتي اعتمدت خلالها تجنيد المرتزقة للقتال إلى جانب حلفائها، وهو ما عرف في ذلك الوقت بـ»الحرب بالوكالة» وإثارة الفتن والثورات في البلاد غير الحليفة، من خلال أجهزة المخابرات الأميركية والغربية، والتي كانت تعمل بشكل سري. ورصد تدخل المرتزقة الموالية لأميركا في حربها في فيتنام، وفي مناطق مختلفة من إفريقيا، عندما تحررت معظم الدول الإفريقية خلال ستينيات القرن الماضي، فحافظت الدول الغربية على مصالحها الاقتصادية في تلك البلدان من خلال الثورات والحروب الأهلية التي أشعلتها المرتزقة المدفوعة من الغرب، وكذلك في أفغانستان، حيث شكل دعم الولايات المتحدة للمقاتلين فيها السبب الرئيس لهزيمة الاتحاد السوفيتي وانسحابها منها.
وفي تطور نوعي آخر، لجأت الولايات المتحدة لاستخدام المرتزقة بشكل واسع في «حربها على الإرهاب»، بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، مطلع الألفية الجديدة، وكان أهم اختلاف في هذا التطور باللجوء إلى الشركات الأمنية الخاصة، التي تقوم بمهمة التجنيد، بالتعاون مع أجهزة المخابرات الرسمية، ودون ظهورها بالصورة نهائياً، كما كان الأمر في فترة الحرب الباردة، وإن كان عمل الجهتين في العادة يكون بشكلٍ سري. وتضاعف أعداد المرتزقة عدة مرات ما بين الحرب الباردة والحرب على الإرهاب، وعاد وتضاعف ثانية بعد الثورات العربية، حيث انتشر هؤلاء بكثافة في ليبيا وسورية واليمن بالإضافة إلى العراق. وخصصت وزارة الدفاع الأميركية ٣٢٠ مليار دولار العام ٢٠١٧ كمصروفات لتوقيع عقود فيدرالية، ٧١٪ منها مخصصة لعقود شركات الخدمات الأمنية الخاصة بتجنيد المرتزقة من بين أمور أخرى. ورفعت وزارة الخارجية البريطانية نفقاتها على هذا النوع من الخدمات ما بين عامي ٢٠٠٣ و٢٠١٣ إلى أربعة أضعاف. واعتبر ايريك برنس مؤسس «شركة أكادمي» الأمنية في مقابلة نشرتها صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية، أن المرتزقة هم من سيحارب في أفغانستان وليس قوات الجيش الأميركي. ويعمل في العراق وحدها حوالي ٦٠ شركة أمنية، ويتراوح عدد المرتزقة فيها ما بين ١٥ ألف إلى ٢٠ ألف شخص، بالإضافة إلى انتشار عشرات الآلاف منهم في مناطق أخرى من الشرق الأوسط.
وتلجأ الدول في العادة لاستخدام هذا النوع من الشركات الأمنية التي توفر لها المرتزقة والمعدات والخدمات اللازمة لتحقيق أهدافها في مناطق معينة دون تحمل تبعات وجودها أو مسؤولية انتهاكاتها، ناهيك عن تكلفتها المادية الأقل، مقارنة بوضع ترسانة عسكرية بكامل عدتها وعتادها. وينتشر، اليوم، أكثر من ٣٠٠ ألف شركة أمنية وعسكرية ومدنية، مهمتها تقديم خدمات للحكومات وتعمل بدلاً منها، كالقتال عنها وتوفير الحمايات الأمنية والعمل في الحواجز والمعابر ونقاط التفتيش وجمع المعلومات الاستخبارية. وتحتكر الشركات الأميركية صناعة هذا النوع من الخدمات، بالإضافة إلى دول غربية أخرى على رأسها بريطانيا، وكذلك إسرائيل. ومن أهم هذه الشركات «شركة أكادمي» الأميركية التي تأسست العام ١٩٩٧، وحصلت على أول عقد من الحكومة الأميركية العام ٢٠٠٠، والمعروفة باسم «بلاك ووتير» والتي اضطرت لتغيير اسمها أكثر من مرة، بسبب جرائمها التي انتهكت حقوق الإنسان. وهناك شركة «G4S» البريطانية الأمنية العملاقة، والتي تأسست العام ٢٠٠٤، وتقوم بتزويد عملائها بأفراد أمن ومعدات مراقبة. هذا بالإضافة إلى الشركة الأمنية الإسرائيلية السباقة، التي تأسست العام ١٩٨٢، من قبل ضباط سابقين في جهاز الأمن الإسرائيلي العام «الشاباك»، ويقع مقرها في هولندا.
في الوقت الذي يتسع فيه عمل هذه الشركات، يعجز القانون عن التعامل معها، لضبط نشاطها ومراقبة أدائها ومعاقبة القائمين عليها والعاملين، بسبب طبيعتها ونطاق عملها. ويعتبر القانون الدولي المرتزقة مجرمين، ولا يُجيز معاملتهم كمقاتلين، يمتلكون حصانة قانونية دولية يحددها القانون. وقد عرف البروتوكول الأول لعام ١٩٧٧، الملحق باتفاقيات جنيف الأربع لعام ١٩٤٩، المرتزقة في إطار تميزهم عن المقاتلين الذين يتمتعون بحماية القانون الدولي. ورغم تأكيد الكثير من الجهات على أن ذلك البند المحدد يعتبر مبدأً عرفياً، ما يلزم الجميع بالالتزام به، حتى أولئك الذين لم ينضموا إلى البروتوكول، رفضت الولايات الاعتراف بعرفيته. واعتمدت الأمم المتحدة الاتفاقية الدولية لمناهضة تجنيد المرتزقة واستخدامهم وتمويلهم وتدريبهم لعام ١٩٨٩، إلا أنها لا تلزم ألا المنضوين تحت إطارها. وتبقى هذه القضية غير محسومة في إطار القانون الدولي، وتبقى الشعوب من يدفع ثمن عبث قياداتها.