وَقفةٌ في عَوالِمِ “قراءات فلّاح” ليوسف طراد
الشرة الدولية –
“النهار” الدكتور جورج شبلي –
بالرَّغمِ من أنّني أعتبرُ أنّ النَّقدَ الأدبيَّ هو أخطرُ مَقتَلٍ في صنعةِ الأدب، هذا السِّفرِ النَّفيس، لأنّ قَولبتَه مُعقَّدةٌ، ومُنضبطةٌ بمعاييرِ القِيَمِ، وهو ليس مسألةً نِسبيّةً مهما اختلفتِ المواقفُ في وَضعِ أقيسةٍ لتحديدِه بتعابيرَ ملموسة، غيرَ أنّ يوسف طراد الذي انتقلَ من قراءةِ الأرضِ الى حراثةِ صفحاتِ الكتب، استطاعَ أن يعرفَ أنّ للنقدِ شبكةً من العلاقاتِ يَصعبُ رَصدُ تشغيلِها لِغَيرِ مَنْ تراكمَ ذَوقُهُ، فعمدَ الى ظُلمِ الحبرِ، ولم يتركْه على طبيعتِه، ولم يَعقِدْ معه صُلحاً إلّا بعدَ أن تَسَلَّطَ عليهِ بفوقيَّةٍ نقديّةٍ أظهرَت أنّ العنايةَ بعوالمِ الفكرِ والجَمالِ، عندَه، كفاءةٌ لم تتوفَّرْ لكثيرين.
لم يبتكرْ يوسف طراد، في إقامتِهِ جسراً بينَه وبين نتاجاتِ المُبدِعين، نموذجاً محدَّداً حبسَ بينَ دَفَّتَيهِ قلمَه، حتى تأتيَ دراساتُهُ نَمَطيّةً تخذلُ مَنِ انتظرَ تلاوينَها، لكنّه حَمَّلَ قراءاتِهِ ضريبةَ ارتفاعِ منسوبِ التنوّعِ المُتعاطفِ مع ثقافتِهِ التي فرضَت طقوسَها على النّصوصِ النّقديّة، وامتلكتِ القدرةَ على نَقلِ القارئِ الى ما يعجزُ عن تَبَيُّنِهِ، وحدَه.
لمّا كانتِ القرائحُ باقيةً، والتَكَسّبُ الى أُفول، لم يَبنِ يوسف طراد كتابَه لتشييدِ مفاخرِ غيرِه، ولتمجيدِ مآثرِهم، فهذا خطأٌ مُبينٌ عند الذين أَلِفوا انخفاضَ ريشتِهم، أمامَ السُدّات، فجرى من حِبرِهم ما اختلَّ في مرماه، فالرَّجُلُ الذي لم يَعتَدْ أن يكونَ مُلحَقاً بحواشي أحد، ولم يُلَمِّعْ صورةً لِحَظوة، ولم يدبِّجْ من المعاني لِإِحسان، ما يؤدّي الى بُطلانِ مخزونِ صِدقيّةِ مواقفِه. من هنا، كان نُزوعُهُ الى التجرّدِ، وهو الأَملَكُ في نفسِه، طاقةً عبقَ فيها روحُ الأُصول، فاستحقَّ الأستاذيّةَ فيها، خصوصاً أنّ تجرّدَه ليسَ حالةً تَخبو وتَبدو غِبَّ الطّلب، فهو لم يَحِدْ عن عهدِها حتى تكوَّنَت لها، معه، حرمة.
أحبَّ يوسف طراد استنطاقَ التّعابيرِ حتى خرجَ بها من المادةِ الى آياتِها، وفي ذلك شوقٌ الى طينةِ البحثِ، من دونِ زخرفةٍ شكليّة، ومن دونِ فَرضِ قيودٍ على كوامِنِ الوَعيِ المنفتحِ على صلةِ الأدبِ بالحياة. لقد مالحَ يوسف نسيجَ البحثِ، مستلهماً قاموسَ الموضوعيّةِ المُطلَقَة، لكنّه، مع ذلك، لم ينكمشْ عن التأثّرِ لأنّ إلهاماتِهِ تُؤمنُ بأنّ الحقيقةَ، غالِباً ما تكونُ في القلبِ وليس في العين. لكنّه اعتمدَ الموضوعيّةَ آلةً حادّةً للتفرقةِ بينَ الكَدَرِ والصّافي في التأليف، فتركَها تَنخلُ الجُمَلَ، والمُؤَدّى، والأسلوب، والقُطعات، لتمحضَ الولاءَ للجَميلِ القَيِّم، وللإبداعِ المُنتمي الى الموهبةِ المُتقِنَة، فبَدَتِ الموضوعيّةُ، معه، إيديولوجيّةَ النَّقدِ الصّافي.
لقد قاربَ يوسف طراد النتّاجين الذين جعلوا الإبداعَ وليمةً دائمةً، بعينِ العقلِ، والعقلُ عَمودٌ من نور، ولم يحبسْ نتاجَهم في قمقمِ ذاكرتِه، بل أقامَ له في مَتنِ صفحاتِهِ استراحةً لها فَضلٌ وعائدةٌ، فقد ظفرَ القرّاءُ بنادرِ مُصنّفاتِ المُتخَمينَ بالموهبة، وباختلافِ الفنونِ والتّقسيمات، فوثباتٌ في الأدبِ الخالص، وغيرُها في الإجتماعِ والوطنيّات، والفلسفةِ وعِلمِ السّلوك، بعضُها يستنطقُ الخيالَ، وبعضُها الآخرُ يستبقي الأثَرَةَ للفكر. وهو، في تقصّيهِ الدقّةَ في الدَلِّ على ضُروبِ القيمةِ في النّتاجات، احتفلَ بالإتقانِ والتّجويد، وانشغلَ بالوقوفِ أمامَ فسحاتِ الجَمالِ مُمتَحِناً محاسنَها، ومستوى حظوظِ البدائعِ عندَ أصحابِها، كلُّ ذلك، لاستقصاءِ المُمتِعِ الظّريف، الذي، وحدَه، الأَعلَقُ بالذَّوق، لأنه الأَقدَرُ على امتلاكِ الدّهشة.
هذه المجموعةُ الشّائقةُ من النّصوص، في ” قراءاتِ فلّاح “، وهي صفحاتٌ ثريّةٌ ومُثرِية، نَصيبُها أن تلقيَ أضواءً مُضافةً على أَعلامٍ تساموا إبداعاً، في أدبِ الفكرِ والثقافة، وقد بدا يوسف طراد، في قراءاتِه، وهو المفتوحُ الأُفُق، مُتقِنَ حرفةِ الشّرحِ، والتَّحليلِ، واستخراجِ العِبَرِ من بواطِنِ الصّياغة، وذوّاقةً يقدِّمُ المُستَطابَ في مجاورةِ المُبدِعينَ، بنِدّيةٍ تُضفي على قِيَمِهم من ذاتِها، بفِعلِ المحبّةِ، والإعجاب. وقد جاءَت نصوصُه مستوفيةَ الإيضاح، قريبةَ المُتناوَل، ما أتاحَ الإرتقاءَ إليها، من غيرِ تَعجيزٍ بالمُصطَنَع.
يوسف طراد المُتابِعُ التَّحصيل، والمُكِبُّ على البحثِ والتقَصّي، يحملُ في ” قراءاتِ فلّاح “، أمانةَ تحصيلِ المعرفةِ من مصادرِها، وأطاريحِ ثُقاتِها، وينقلُها إلينا صِرفاً، ممهورةً بخاتَمِه. ولأنّ الكتابةَ ليسَت مجرَّدَ تَرَف، بل تُرَتِّبُ تَبِعات، لأنها في موضعِ الشَّهادة، التزمَ المؤلِّفُ النّاقدُ، بالأمانةِ التي لا تُصانِعُ أو تتستَّر، وتلك، في الحقيقةِ، ميزةٌ إبداعيّة. فأَنْ تنبريَ لمقالٍ، أو كتابٍ، يُحتِّمُ عليك أن تَصدُقَ مع نفسِكَ، أوّلاً، ليصدِّقَكَ القارئُ والسّامعُ، ولو خالَفتَهما، ولم يُجارِياك. واستناداً، بَلَّغَ يوسف طراد، وكتبَ، لنفسِهِ ثمَّ لِسواه، ووهَّجَ ريشتَه في زمنِ الصَّمتِ المتواطِئ، تأكيداً على هويّتِهِ الأصيلةِ، ووفاءً للثقافةِ الآية.
هنيئاً ليوسف طراد ” قراءات فلّاح “، وشكراً لمنتَدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحاده الثّقافي، الذي نَسيجُهُ وجدانٌ وفِكر، على هذه الهديّةِ المتفوّقة، وطوبى لِمَن يقرأُها دراسةً نوعيّة.