الزيتونة” أسطورة ليل بيروت المتلألئ بالنجوم

النشرة الدولية –

مجلة برس بارتو – زياد سامي عيتاني – باحث في التراث الشعبي –

“الزيتونة” تلك المنطقة الرائعة من بيروت التي كانت تتمتّع بخصوصية “طوبوغرافية” بفعل قربها من البحر، تزينها “جادة الإفرنسيين” بإنسيابية، وتتركّز خصوصيتها في مواقع معينة على معالم أساسية مميّزة بطابعها الذي يجمع بين حداثة معمارية تعود إلى حقبة الإنتداب (كانت تضم نصباً تذكارياً للجنود الفرنسيين الذين سقطوا في الحرب العالمية الأولى)، وبين نزعة إستشراقية، تركت بصماتها على المكان وثقافته الإجتماعية في تلك الحقبة.

ومن أبرز معالم تلك المنطقة فنادق: “النورموندي”، و”بسول”، و”نيو رويال”، و”اليلتون”، إضافة إلى المقاهي المطلة على البحر وأشهرها: “الحاج داوود”، و”البحرين”، و”الأوندين”، و”النيل”، و”قصر البحر”… التي كانت مقصداً للراغبين بالإستمتاع بمشاهدة منظر البحر، وسماع صوت أمواجه المتكسّرة على صخور الشاطئ، حيث كانت تقدّم فيها “الأراكيل” والمأكولات البحرية والمقبلات اللبنانية، والقهوة والشاي والمرطبات.

أما منطقة “الزيتونة” ليلاً فكانت عالماً آخراً قائماً بذاته، بعد إنتشار الملاهي الليلية منذ حقبة ثلاثينيات القرن الماضي، من أبرزها: “الكيت كات”، و”التابو”، و”غاردينيا”، و”كازينو منصور”، التي يلتئم فيها رواد السهر والسمر من مشارب وأهواء وجنسيات متنوعة، حتى ساعات الفجر الأولى، على أنغام الموسيقى الصاخبة والإستعراضات لأكبر النجوم العرب والعالميين، حتى عرفت “الزيتونة” ب “أسطورة” ليل بيروت المتلألئ على مدى ثلاثة عقود متتالية، ما زالت ذكراها التي لا تنسى في أذهان من عاصر تلك المرحلة الذهبية من تاريخ عاصمة “الحياة” بيروت…

****

“الكيت كات” لصاحبه ومالك فندق النورماندي رفول موقدية، من أشهر “كباريهات” الزيتونة وملاهيها الليلية على الإطلاق، كان يقع في فندق “نيو رويال” الذي ستهيمن صورته الظلية النموذجية على “جادة الإفرنسيين”.

تأسس “الكيت كات” في منتصف الثلاثينيات، من قبل المصمم جان بروسبر جاي بارا، الذي كان يملك شركة تعمل في قطاع الفنادق والسياحة، والتي سعت إلى أن تجعل من بيروت مركزًا للسياحة الإقليمية، حيث بادرت في 16 تشرين الثاني 1951 تشغيل فندق “بالم بيتش” في عين المريسة، حيث اعتبر في حينه من أحدث الفنادق الكبرى في بيروت إلى جانب باقي الفنادق المحيطة.

وقد إجتذب “الكيت كات” في زمن المدينة الصاخبة عدداً كبيراً من الفنانين الأوروبيين والفرق الإستعراضية الراقصة التي قدّمت العروض الجريئة، على غرار تلك العروض التي كانت تُقدّم في “كازينو لبنان”.

وفي سهراته بدأت ملكة جمال أوروبا السابقة، الفرنسية جوسلين بيجار، تقدّم برنامجاً فنياً مميزاً في الفترة الممتدة بين (1952 – 1958).

وكان نجل رفول موقدية، إدوار يدير “الكيت كات”، فوقع في غرام جوسلين، وما لبث أن حمله غرامه بها على الزواج منها. فشيّد موقديه الأب فيلا لزواج العريسين وإقامتهما في الحازمية، فسمياها فيلا الغاردينيا، غير بعيد من مصح الأمراض العقلية والعصبية الشهير بـ”العصفورية”.

كما إستقدم “الكيت كات” نجوماً أوروبيين ذائعي الصيت، ومن أبرزهم هنري سلفادور الذي قدم 11 حفلاً.

كذلك كان “الكيت كات” يستقدم راقصات مصريات لتقديم وصلات من الرقص الشرقي، على أداء المطربين الذين كانوا يحيون سهراته الشرقية، وأشهرهم في حينه كارم محمود، وكانت تلاقي إقبالاً وإستحساناً كبيرين من السيّاح الأجانب الذين كانوا يتقاطرون بعد إنتهاء السهرة في “الكيت كات” ومع ساعات الصباح الأولى إلى مطعم “العجمي” لتناول أطباق الفطور من الفول والحمص وحتى الشاورما.

نشير في هذا السياق وعلى سبيل الطرفة أن مراكب الصيادين كانت تُركن في البحر مقابل “الكيت كات” خصيصاً ليشاهد الصيادون العروض الفنية ولو عن بُعد.

****

إلى جانب “الكيت كات” كان “ملهى منصور” لصاحبه منصور القرم الذي كان يعمل “غارسون” في “الكيت كات”، ثم افتتح مطعماً خاصاً به أطلق عليه إسمه، قبل أن يحوّله إلى ملهى ليلي.

وكان من زبائن مطعم “منصور” الرئيسان بشارة الخوري، ورياض الصلح، وقائد البوليس ميشال زكور.

وفي إحدى المرات من سنة ١٩٤٤ دخل الرئيس رياض الصلح إلى مطعم منصور يرافقه الإعلامي عفيف الطيبي، وقال لمنصور: “الناس تقدّمت وواجب عليك أن تقدّم برنامجاً ترفيهياً للساهرين”. قآقتنع القرم بكلام رياض بك، وتعاقد مع بعض الفنانين المبتدئين حينذاك لتقديم برنامج فني، الذين شاعت شهرتهم في وقت لاحق، ومنهم: وديع الصافي، وسعاد محمد، ونور الهدى، ونجاح سلام، وسميرة توفيق، ونزهة يونس، وغيرهم، مما جعل من مطعم “منصور” ملهاً ليلياً عامراً بالسهر والأجواء الفنية، ليكمل سلسلة ملاهي “الزيتونة”…

 

بالرغم من أن الحرب المدمرة قد قضت على معالم “الزيتونة”، إلا أنها لن تستطيع محوها من ذاكرة المدينة التي هي نتيجة تراكمات تاريخية…

زر الذهاب إلى الأعلى