لا اتفاق والمعارك ستشتعل والإبقاء على الخلاف ضرورة لبنانية
بقلم:   اكرم كمال سريوي

النشرة الدولية –

الثائر نيوز –

أيها اللبنانييون !!!

إحذروا ما سترونه في الأيام القادمة من معارك واشتباك سياسي، فلا تنجرفوا إليها ولا تقتتلوا فيما بينكم، ولا تسفكوا دماء بعضكم بعضاً، ولا تهدموا روابط الألفة والجيرة والأخوة والمحبة في كل مدينة وقرية وشارع وحي، على مذبح ضغائن أهل السياسة، فهم يختلفون عليكم وعلى تقاسم أصواتكم وليس لأجلكم.

قد تبدو لكم تلك معارك حقيقية بينهم، لكنها ليست أكثر من مظاهر خادعة لطمس حقيقة تقسيم الأدوار، وشدِّ العصب الحزبي والطائفي، وعندما تُدقِّقون في التحالفات والصفقات التي ستجري في الانتخابات النيابية القادمة، ستتكشّف لكم حقيقة ما يُحيكون على نول مصالح الزعامات المذهبية والحزبية، بعيداً عن أي مبادئ وطنية أو مصلحة للشعب أو بناء دولة العدالة والكفاءة والمؤسسات.

منذ ١٨٠ عاماً تكرّس في لبنان نظام طائفي، تبدّلت صيغته عدة مرات، لكنّه حافظ على مرتكزاته الأساسية في دور زعماء الطوائف، وتشابك الدين والسياسة في خدمة كل منهما الآخر، بحيث ترى رجال السياسة يلجأون إلى الدين عند كل مفترق يتهدد مصالحهم وزعامتهم، في حين يندفع رجال الدين إلى معترك السياسة كحماة وأوصياء على هذا الكيان أو الزعيم، عندما يشعرون بتهديد لدورهم وحضورهم، ويختلط عليك المشهد فلا تعرف من هو العلماني ومتى وكيف سيلبس ثوب الطائفة ويتمترس خلفها.

قُبيل انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية أرسى الزعماء الموارنة (وبموافقة زعماء الطوائف الأُخرى) مبدأ: الأقوى في طائفته، للوصول إلى الحكم، والحصول على حصة الأسد في التعيينات والتوظيفات التابعة لمذهبه. ورغم أن هذا المبدأ كان قائماً منذ نشأة لبنان الكبير، لكنه لم يكن معلناً وتم تجاوزه قليلاً في مرحلة الوجود السوري.

فالأقوى في طائفته يملك حقاً حصرياً في تمثيلها والنطق باسمها، واختيار من يراه مناسباً من أفرادها ليعيّنه وزيراً أو نائباً أو مديراً عاماً وحتى حاجباً أو ما شابه. وهم جميعاً يتفقون على ذلك ولا يُقبل اعتراض لا من داخل الطائفة ولا من خارجها، وجميعنا شهد مسألة تأخير تشكيل الحكومة والخلاف المستميت لأشهر على من يُسمّي الوزيرين المسيحيين في الحكومة العتيدة، دون أن يوقض ضميرهم انهيار البلد واقتصاده ومظاهر الذل وصراخ الناس وشبح الفقر والجوع.

يمنح هذا الاتفاق المعتمد سلطة مطلقة لكل زعيم داخل طائفته، وهو يمارس من خلاله دور الحاكم المُطلق بأمره على أفرادها، الذين يجدون أنفسهم أمام خيارين: فإما الاعتراض وعندها لن يحلموا بأي منصب في الدولة العليّة، وإمّا الطاعة العمياء والتزلّف للحصول على وظيفة من تلك المخصصة لهذا المذهب. وتراهم بعد أن يُنعم عليهم الزعيم بوظيفة، يتقاطرون إلى داره وفوداً لشكره على النعمة، فهم في الأصل يعلمون أن هذه الخِلعة ليست بسبب كفاءتهم، بل مكافأة لهم على حسن الطاعة والتبعية الصماء البكماء.

ويجهد الزعماء اللبنانيون للحفاظ على هذا النهج، فهم يمارسون داخل طوائفهم أبشع أشكال القمع والدكتاتورية، وفق مبدأ: كل من يخالفني الرأي هو عدو، وعنصر خطر يجب قمعه وإسكاته بسرعة، فتُشنّ عليه حملة النبذ والتخوين وربما التكفير والضرب، وصولاً إلى القتل والتصفية الجسدية .

لقد تحوّلت أحزاب لبنان إلى جماعات مذهبية، وإذا تم تلوينها أحياناً بشخص من خارج المذهب، فهذا فقط للدعاية وذرِّ الرماد في العيون، والقول أن هذا الحزب هو وطني عابر للطوائف والمناطق، لكن ذلك لم ولن يغيّر في الطبيعة المذهبية والمناطقية للأحزاب اللبنانية شيئاً. وفي الحقيقة فإن هذا الشخص يعلم جيداً، كما يعلم الزعيم، أن دوره محصور في اللعبة، لأن وصوله إلى منصب أساسي مهم في الدولة مرهون بإرادة زعيم طائفته، ولا قدرة لزعيم حزبه على كسر القاعدة. هذا ما خلا طبعاً بعض الحالات الشاذة عن القاعدة في الانتخابات النيابية، حيث يستطيع زعماء الطوائف في بعض الدوائر التحكم بأصوات الغالبية الناخبة وتجييرها لصالح من يشاؤون من ممولين كبار للحملة الانتخابية.

من الطبيعي أن يدفع واقع المحاصصة الطائفية هذا، بأفراد كل مذهب إلى التكتل خلف الزعيم الأقوى للطائفة، فهم يضمنون بذلك وجود فرصة للحصول على وظيفة ما، فيما يضمن الزعيم بقاء زعامته وإحكام قبضته عليهم، فهي عملية تبادل مشترك للمصالح بينه وبينهم، تُشكّل أبشع أنواع الانتهازية والفساد السياسي والاجتماعي، الذي ضرب صورة الوطن، ومنع قيام دولة حقيقية في لبنان .

الاتفاق على الخلاف

يقول الزعماء اللبنانيون: نريد الحفاظ على التنوّع والاختلاف، لكنهم في الحقيقة يحافظون على الخلاف، فهو من ضرورات وجودهم واستمرار سيطرتهم، كُل واحد على “كانتونه” الشبه مُغلق في وجه الآخرين .

ومَْن يُراقبْ يرَ بوضوح كيف يتم قُبيل كل انتخابات نيابية افتعال المشاكل والخلافات الطائفية، وتنطلق حملة الدفاع عن حقوق الطائفة، والادّعاء بأن الزعيم يتعرض للهجوم، وأنهم يريدون كسره وإلغاءه وتحجيم دوره، والنيل من حقوق الطائفة، فتشتعل وسائل التواصل الاجتماعي والشاشات بين المناصرين لهذا وذاك، قصفاً عشوائياً بأبشع عبارات الشتائم والإهانة والتهديد والتخوين، ويتبارى أبطال الخطابات والكلام المنمّق، وأصحاب الزنود المفتولة وحتى القصب الرفيع، فيملأون الشاشات قتلاً وذبحاً ودماً وهتكاً للكرامات، ويصدحون شعراً ومديحاً للزعيم المُعظّم المبجّل، فتخال أمامك ابو العتاهية والفرزدق وجرير ومظفّر النواب، انمسخوا برازيق نزقة في بلاط الأمير الكرار.

غداً قد تأتي الانتخابات النيابية ويتكرر المشهد، وسيؤدي كُلٌ دوره في المسرحية على أكمل وجه، لدفع الجمهور إلى أقصى الشغف والتوتر والحراجة والمتعة ، وفيما الناس يدفعون من حياتهم ومالهم ووقتهم وأعصابهم المشدودة، فرحاً حيناً وحزناً أحياناً ، يقبض الممثلون وراعي الحفل على جائزتهم وأجرهم على أكمل وجه، وتُسدل الستارة على عبارة:

«تُصبحون على وطن و ما تنسوا تنتخبوهن هن ذاتهن»

Back to top button