أبعد من اتفاق نووي… “غرام” وأوهام استراتيجية
بقلم: رفيق خوري
رؤساء أميركا راهنوا على "المعتدلين" لتسلم السلطة في إيران فاصطدموا بـ "ولاية الفقيه"
النشرة الدولية –
أميركا في “غرام” من طرف واحد مع إيران، وقد بكت عليها بعد قيام جمهورية الملالي بأكثر مما بكى العرب على الأندلس. فقبل ثورة الخميني تدخلت واشنطن في إيران خلال الحرب العالمية الثانية ودفعت الشاه رضا بهلوي، المتعاطف مع دول “المحور” إلى التنحي عن العرش لمصلحة نجله، محمد رضا، وأسقطت “جمهورية مهاباد” الكردية في إيران، التي دعمها السوفيات، وكان الملا مصطفى البارزاني من أبطالها، فلجأ إلى موسكو. وحين فازت الحركة الوطنية في الانتخابات، أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، وتولى زعيمها محمد مصدق رئاسة الوزراء، ثم قرر تأميم النفط على الرغم من الشاه، الذي لجأ إلى إيطاليا، ردت أميركا وبريطانيا بفرض حصار لمنع مصدق من بيع النفط وتصديره. ثم عملت المخابرات الأميركية والبريطانية على تدبير انقلاب عسكري بقيادة الجنرال زاهدي، أعاد الشاه محمد رضا إلى عرش الطاووس.
وفي السبعينيات من القرن الماضي، كان السفير الأميركي في طهران واحداً من أهم اللاعبين في “الدولة العميقة”، وهو ريتشارد هيلمز، الذي تولى من قبل منصب مدير المخابرات المركزية (CIA). وأقل ما اختصر به “هيلمز” أهمية إيران في الاستراتيجية الأميركية هو، “إيران مسمار الدولاب”. ولا آلة يمكن أن تسير إذا كان دولابها فالتاً أو مخلعاً بلا مسمار.
وأميركا اليوم ليست السبب في العداء الأميركي- الإيراني. فقد ساعدت الإمام الخميني في البدء لثلاثة أسباب. أولها أن الشاه الذي أعطي دور”شرطي الخليج” صار عاجزاً عن ضبط شعبه، ومتغطرساً في الخليج. وثانيها أن ثلاثة من كبار مساعديه كانوا على صلة بأميركا، وهم أبو الحسن بني صدر الذي تولى رئاسة الجمهورية، وصادق قضب زادة، الذي تولى وزارة الخارجية، وإبراهيم يزدي، الذي تولى وزارة المال. وثالثها أن مستشار الرئيس جيمي كارتر لشؤون الأمن القومي البروفيسور زبغنييف بريجنسكي أقنع رئيسه بالنظرية القائلة، إن على سياسة أميركا التحول من “منع الثورات” إلى “صنع الثورات” لتكون صديقة لواشنطن بدل أن تكون معادية.
وكان الشاه وصل إلى مرحلة تطلبت التخلي الأميركي عنه. إذ يسجل راي تقية في كتاب “الشاه الأخير، أميركا وإيران وسقوط سلالة بهلوي الحاكمة” أن الشاه محمد رضا “أوتوقراطي غير حاسم في القرار، ومعظم المسؤولين من حوله سذج في السياسة وفاسدون”. لكن الخميني كان ينتظر الفرصة التي جاءت سريعاً بعد انتصار الثورة للتخلص من الأحزاب الوطنية التي شاركت فيها بقوة، ومن مساعديه الكبار المتصلين بأميركا، فهرب بني صدر إلى فرنسا، وجرى إعدام قطب زادة وسجن يزدي. وحين حاصر طلاب “خط الإمام” السفارة الأميركية، كان رافسنجاني، كما روى، مع علي خامنئي في مكة المكرمة لأداء العمرة، فخافا من غضب أميركا وتأثير الحصار على الثورة الوليدة، وقررا العودة سريعاً إلى طهران. لكن الخميني قال لهما، “دعوا الطلاب. لا تخافوا”. وكان واضحاً ما أراده، “العداء لأميركا من أسس الثورة الإسلامية”.
وليس من السهل على أي رئيس أميركي أن يدرك الجوهر العملي لولاية الفقيه، فهم جميعاً راهنوا على أوهام اسمها “دعم المعتدلين” لتسلم السلطة وتغيير الاتجاه. وهم جميعاً اصطدموا بواقع لا يتغير، لا علاقة للانتخابات ومن يفوز فيها بالسلطة الفعلية، لأن السلطة المطلقة ثابتة فوق الانتخابات، وكان الرئيس باراك أوباما أكبر المراهنين على “الاعتدال” الإيراني. فقد تجاهل كل تعقيدات الوضع وهرول للحصول على اتفاق نووي مع طهران يرجئ حيازتها للسلاح النووي سنوات عدة. وتصور أن إقامة توازن بين قوة شيعية بقيادة إيران، وقوة سنية بقيادة تركيا والإخوان المسلمين، تريح أميركا التي قررت التوجه نحو الشرق الأقصى.
لكن طهران حصلت على الإنفاق والمال واستمرت في تطوير البرنامج الصاروخي وتوسيع نفوذها الإقليمي. ولم يبدل من الوضع خروج الرئيس دونالد ترمب من الاتفاق ورهانه على “الضغط الأقصى” لدفع إيران إلى اتفاق أفضل لأميركا. وها هو الرئيس جو بايدن، الذي كان نائب أوباما، يعود إلى رهان رئيسه الخاطئ. فلا هو يرد على تحذيرات الجمهوريين وعدد من الديمقراطيين في الكونغرس من مخاطر الاتفاق الجديد- القديم، ولا هو يأخذ بعين الاعتبار قلق حلفاء أميركا وأصدقائها في المنطقة حيال البرنامج الصاروخي والسلوك الإيراني المزعزع للاستقرار. بل إن قائد القيادة الوسطى، الجنرال ماكنزي، قال بصراحة أمام الكونغرس قبل أيام، “إن إيران تمثل التهديد الأكبر للمصالح الأميركية في الشرق الأوسط، مع تهديد وكلائها في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وحتى الحدود مع إسرائيل، وإن برنامج الصواريخ الباليستية تهديد كبير لأمن كل دولة في المنطقة وللقوات الأميركية فيها”، ولا أحد يسمع في الإدارة. ولا حدود للأوهام الأميركية والغرام من طرف واحد مع إيران.