روسيا والناتو نحو المواجهة المباشرة في أوكرانيا
بقلم: اكرم كمال سريوي
النشرة الدولية –
الثائر –
لا يبدو أن أحداً من زعماء العالم راغبٌ أو مستعدٌ للتراجع، خاصة الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأمريكي جو بايدن .
لقد حضر بايدن إلى بروكسل مزهوّاً بما جناه من الحرب الأوكرانية، متباهياً بإعادة توحيد الناتو تحت زعامته، ومحاصرة الرئيس بوتين وتشويه صورته في العالم الغربي، وتحويل روسيا إلى فزّاعة لأوروبا، ويسعى الآن لإغراقها في الوحل الأوكراني، تمهيداً لتفكيكها والقضاء عليها، وهذا سيسمح لامريكا لاحقاً بالتفرّغ لمقارعة الصين وتحطيمها، وإحكام السيطرة على العالم.
من بروكسل ورغم تلعثمه في الخطاب، قال بايدن عبارات بحق بوتين غير مألوفة في عالم الدبلوماسية، وهدد أنه اذا استعملت روسيا السلاح الكيميائي في أوكرانيا فستلقى رداً قاسياً من دول الناتو وستُعامل بالمثل، دون أن يحدد كيف وأين سيفعل ذلك . فهل يعني بكلامه هذا أنه سيدخل في مواجهة مباشرة مع روسيا مجازفاً باشعال حرب نووية شاملة في أوروبا والعالم؟!!.
يحق للرئيس بايدن أن يتفاخر بإنجازه طبعاً، فهو حتى الآن يبدو الرابح الأول من الحرب في أوكرانيا . فوحدها أمريكا بقيت خسائرها محدودة ، فارتدادات ارتفاع أسعار النفط، والعقوبات على روسيا، لم يكن لها تأثير كبير على أمريكا، التي استفادت من ارتفاع أسعار الغاز، وتهافت الأوروبيون على شرائه منها، بعد أن كانوا قد سعوا في مرحلة سابقة إلى الاستغناء عنه، واستبداله بالغاز الروسي، الأرخص والأقرب لهم.
ما قدّمته أمريكا من دعم عسكري ومالي لأوكرانيا، هو أبسط تكلفة لحرب تُخاض بالنيابة عنها، مع عدوها الرئيسي روسيا. وهذا يجعل الرئيس بايدن عازماً على المضي قُدُماً في هذه الحرب، ولو على حساب آخر جندي أوكراني ودم آخر طفل هناك، خاصة وأنّه تمكّن من تجنيد كل حلفائه لدعم وتمويل هذه الحرب، تحت عناوين الديمقراطية والحرية وسيادة الدول، والحق في الانضمام إلى حلف الناتو، الذي أُنشئَ لمواجه الشيوعية السوفياتية، وتحوّل بعد زوالها إلى مُعاداة روسيا بوتين، وكبح جماح صعود الإمبراطورية الصينية.
ووفق رأي الخبراء وبعض السياسيين الأمركيين، فإن بايدن دفع أوكرانيا إلى استفزاز روسيا، ونجح في جر بوتين إلى هذه الحرب، ولو شاء كان بإمكانه منعها، بتقديم ضمانات بسيطة إلى روسيا، بِعَدم ضم أوكرانيا الى الناتو، لكن بايدن أراد لهذه الحرب أن تستعر لأسباب عديدة، أهمها ظنه بانه سيكون الفائز الأول فيها.
بوتين وخطورة التراجع
تقول القيادة الروسية أن الناتو وأوكرانيا لم يتركا لها خياراً سوى الحرب، وبغض النظر عن مدى صحة هذا الكلام، فإن التراجع الآن بات خياراً صعباً، ويُشبه الانتحار السياسي والعسكري، الذي لا يمكن للرئيس بوتين أن يُقدّم عليه.
وفقاً لرأي بعض الخبراء هناك من أبلغ بوتين أن الجيش الأوكراني لن يغامر في مواجهة الجيش الروسي، وأن القوات الأوكرانية ستستسلم ولن تقاتل، خاصة أن الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلنسكي قادم من عالم التمثيل والكوميديا ولن ينجح في قيادة الحرب، وقد ينقلب عليه الجيش، وقد لاحظ الجميع دعوة بوتين للجيش الأوكراني في الآيام الأولى للحرب لاستلام السلطة في البلاد وعقد اتفاق مع روسيا.
عدد من المراقبين كانوا على قناعة أن بوتين لن ينجرَّ إلى الحرب في أوكرانيا، فهو دائماً يحسب خطواته جيداً، فهل فعلاً أخطأ الحساب هذه المرة؟
أياً يكن الوضع، فالثابت أن بوتين دخل حرباً يعتبرها بمثابة موت أو حياة لروسيا، ولقيادته لها، ولا يمكنه التراجع دون تحقيق نصر ناجز، فحتى الإكتفاء بنصف انتصار، سيعتبره العالم هزيمة لبوتين.
زيلنسكي لا يستطيع تنفيذ شروط بوتين
الرئيس الأوكراني لا يمكنه الموافقة على شروط روسيا، التي تُمثّل توقيعاً على صك استسلام، خاصة أن الجيش الأوكراني ما زال صامداً، وأظهر إصراراً على محاربة الروس، والأهم من ذلك الاحتضان الشعبي الأوكراني لهذا القرار، فوفق تقديرات بعض الخبراء إن عددالذين تطوعوا للقتال الآن في القوات الأوكرانية، فاق نصف مليون، وهذا أعطى تفوقاً عددياً كبيراً لصالح أوكرانيا على القوات الروسية المشاركة في الحرب.
منذ اليوم الأول للحرب طلب زيلنسكي من الرئيس الفرنسي، وكذلك من الرئيس التركي، ورئيس وزراء إسرائيل، التوسط مع بوتين لوقف القتال وإنهاء النزاع، وأعرب عن استعداده للجلوس معه لمناقشة الحل.
تلقفت روسيا الطرح وبدأت المفاوضات، لكن بدا واضحاً بعد الجولة الأولى، التي عُقدت في غوميل على الحدود الأوكرانية البلاروسية، أنها لن تصل إلى نتائج تنهي هذه الحرب، فجهاز الأمن الأوكراني حاول اعتقال عضو الوفد الأوكراني المفاوض دنيز كرييف، بتهمة الخيانة العظمى، كونه اقترح الموافقة على مطالب روسيا، وحسب التقارير قُتل كرييف أثناء اعتقاله، دون أن تصدر السلطات الأوكرانية أي توضيحات عن ظروف الحادث. كانت تلك الحادثة بمثابة إنذار للرئيس زيلنسكي بأنه من غير المسموح القبول بالشروط الروسية.
وتحدثت التقارير أن الرئيس الأوكراني أراد منذ بداية الحرب تجنيب بلاده وجيشه ما يمكن أن يحدث من خسائر وخراب ودمار، وكان عندما اتصل بالرئيس الفرنسي ليتوسط له مع بوتين، أبلغه باستعداده لمناقشة الشروط الروسية، خاصة مسألة الحياد وعدم الانضمام إلى الناتو ووضع أقليمي لوغانسغ ودونياتسك، لكن في مساء ذلك اليوم أجرى الرئيس الأمريكي جو بايدن اتصالاً بزيلنسكي، طلب منه فيه عدم القبول بشروط بوتين، وأبلغه أنه سيقدم مع دول الناتو كامل الدعم لأوكرانيا، كي تنتصر في هذه الحرب، وأنهم لن يسمحو لروسيا بالانتصار فيها مهما كلّف الأمر.
احتمال الصدام مع الناتو
يصعب فهم حقيقة ما يريده الرئيس الأمريكي، فهو أعلن مِراراً أنه لن يدخل في مواجهة مباشرة مع روسيا في أوكرانيا، وهذا طبعاً يتوافق مع رغبة جنرالات البنتاغون الذين يعلمون جيداً مخاطر ما قد ينتج عن تحويل الحرب الأوكرانية إلى مواجهة شاملة، لكن في نفس الوقت يدفع بايدن بعض دول الناتو، خاصة بولندا للتورط في الحرب، عن طريق تقديم الطائرات والأسلحة وإرسال الخبراء العسكريين، وهو يعلم أن ذلك قد يوسّع المجابهة لتشمل عدة دول في أوروبا، وعندها لا يمكن أن يضمن أحد أن لا تتحول الحرب إلى مواجهة مباشرة بين روسيا والناتو .
من الواضح أنها لعبة عض الأصابع، بين قادة لا يستطيع أي واحد منهم التراجع، فبايدن محاصر داخلياً بمشاكل عديدة لم يجد لها حلولاً ناجعة، وبات أكثر من 60% من الأمركيين يرونه غير مناسب لقيادة أمريكا، هذا وفقاً لاستطلاع رأي أجرته وكالة NBC News، وخصمه دونالد ترامب يحاول استغلال أي خطأ مهما كان صغيراً لمهاجمته، والبلاد قادمة على انتخابات برلمانية هامة آواخر الصيف. أما الرئيس الفرنسي ماكرون، فلديه أقل من ثلاثة أسابيع للنجاة، في انتخابات الرئاسة القادمة، أما باريس جونسون فبات 78% من البريطانيين يعتبرونه غير مؤهل لرئاسة الوزراء، ولو لم تحدث الحرب في أوكرانيا، لكان قد واجه العزل، فلقد قدم 40 نائباً محافظاً من حزبه طلبات لعزله. والرئيس الروسي وكما اصبح واضحاً دفعه الغرب الى الزاوية، حيث لا يمكن التراجع.
باختصار العالم في مأزق صعب، فالغلاء والتضخم والبطالة والوباء والغذاء والأمن، كلها أزمات تحاصر دول العالم، وتضعه على شفير مواجهة كبرى، يسهل الدخول إليها بشعارات وخطابات شعبوية رنانة، ويستحيل الخروج منها دون تدمير شامل لمعظم دول العالم، فهل يدفع بايدن بأوروبا إلى آتون النار؟ أم سينتفض الأوروبيون في وجه مغامرات الحرب، التي قد تُدمر بلادهم؟
قد تُعطي نتائج الانتخابات الفرنسية، التي ستجري في 10 و 24 نيسان المقبل، مؤشراً واضحاً حول توجهات الأوروبين، وموقفهم من المشاركة في هذه الحرب، والانجراف خلف القرار الأمريكي، أم التصويت لخروج أوروبا من العباءة الأمريكية، وقد بدأت المدن الأوروبية تشهد مظاهرات ضد الغلاء، وارتفعت أصوات معارضة للعقوبات على روسيا، التي بدأت تخنق الاقتصاد الأوروبي، وتحاصر المواطنين، وربما قد تتطور إلى نار تُلهب القارة الخضراء وتضعها على أبواب صيف حارق.