أوكرانيا… تاريخ متأرجح بين الاستقلال والاحتواء
وصفها بوتين في 2008 بأنها "ليست حتى دولة" فهل تتحوّل إلى مقبرة لنظامه؟
النشرة الدولية –
اندبدنت عربية – سوسن مهنا
في قمة “الناتو” التي انعقدت في بوخارست عام 2008، توجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى رئيس الولايات المتحدة حينها، جورج بوش، رداً على سؤال حول عضوية أوكرانيا في “الناتو”، قائلاً: “أنت لا تفهم، جورج، إن أوكرانيا ليست حتى دولة. ما هي أوكرانيا؟ جزء من أراضيها هو أوروبا الشرقية، لكن الجزء الأكبر هدية منّا”. وفي خطابه، في 21 فبراير (شباط) الماضي، توجه بوتين إلى مواطني أوكرانيا، قائلاً: “خطابي موجه إلى مواطنينا في أوكرانيا”، عارضاً تاريخ البلاد من وجهة نظره ومحاولاً إعادة كتابته، فاعتبر أنها لم تكُن يوماً دولة بالمعنى الحقيقي.
لكن خطاب بوتين الذي عُرف بـ”خطاب الألفية”، عند تسلمه سدة الرئاسة عام 2000، وبعد تنازل بوريس يلتسين عن الحكم، كان مختلفاً كلياً، إذ قال حينها: “أنا أعارض استعادة أي نوع من أيديولوجية الدولة الرسمية في روسيا”. وفعلياً ومنذ تسلمه السلطة، كانت سياسة بوتين أقرب إلى البراغماتية ولا تحمل عداءً للغرب، بل ذهب أكثر من ذلك، إذ حاول أن تلبّي تلك السياسة “المعايير الغربية”.
الرئيس الروسي المسكون بهاجس استعادة مكانة روسيا كقوة عالمية عظمى بأي ثمن منذ تسلمه الحكم، قال في خطابه عام 2018 أمام البرلمان: “لا أحد يريد التحدث إلينا. لم يرغب أحد بالاستماع إلينا. استمعوا إلينا الآن”، خلال عرضه أسلحة جديدة “لا تقهر”. واعتبر أن تفكك الاتحاد السوفياتي “أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين”، وقد عمل بجدّ على ترميم هيبة روسيا في العالم. لكن بداية تململ “القيصر” بوتين من “معاملة الغرب” لبلده، كانت عندما ضَمّ شبه جزيرة القرم عام 2014. أما بالنسبة إلى أوكرانيا، فكانت نوايا الضابط السابق في جهاز “الكي جي بي”، الذي فاز بولاية رئاسية رابعة عام 2018، بنسبة 76 في المئة، ويُعتبر ثاني أطول زعماء الكرملين بقاءً في السلطة بعد جوزيف ستالين، واضحة، بفرض النفوذ الروسي عليها.
الديمقراطية كما يراها بوتين
يصف الكاتب والباحث الفرنسي في الشؤون الاستخباراتية فنسنت جوفير، في مقالته المنشورة (13 يناير الماضي) بـ(Le Nouvel Observateur) المجلة السياسية الفرنسية، بوتين بأنه “سيد رقعة الشطرنج الأوروبية”، ففي حين أن الناتج المحلي الإجمالي لروسيا بالكاد يتجاوز مثيله في إسبانيا، لكن رئيس الكرملين استطاع أن يحقق معجزة جيوسياسية، وأن يثبت نفسه ليس على صعيد أوروبا بل حتى على صعيد الكوكب.
ويشرح الكاتب السياسة الداخلية التي “اخترعها” بوتين، ويطلق عليها اسم “الديمقراطية غير الليبرالية”، وهي نظام يبدو ديمقراطياً، يسيطر عليه رجل قوي، وعلى الأرجح أن للمعارضة في هذا النظام مكانها. ويضيف أنه يحق لك في روسيا المعارضة “من داخل النظام”، كما هي الحال في الحزب الشيوعي، وأن تنتقد الحكومة ومبادراتها بشكل علني وعنيف، ولكن عند التصويت يجب أن تستسلم أمام إملاءات الكرملين. أما ما يُسمّى بالمعارضة “من خارج النظام” أو المعارضة الحقيقية، مثل حركة أليكسي نافالني، فهي مشوهة السمعة وممنوعة من التعبير عن رأيها ومن المشاركة في الانتخابات.
وأجاد بوتين استخدام الأجهزة السرّية التي ينشرها بإتقان ومن دون ضبط للنفس، مثل استيلائه على القرم عام 2014، وهو عمل أُعدّ في سرية تامة ونفذته بنجاح الاستخبارات العسكرية الروسية عن طريق “الرجال الخضر الصغار”، وكذلك التدخل في سوريا عام 2015 للدفاع عن نظام بشار الأسد، بحسب الكاتب. وتعدّ عمليات مجموعة مرتزقة “فاغنر” في أفريقيا وأماكن أخرى جزءًا من استراتيجية التهديد هذه، فضلاً عن الاغتيالات المذهلة أو محاولات قتل رجال الاستخبارات الروسية السابقين من أمثال ألكسندر ليتفينينكو وسيرغي سكريبال، وكذلك عمل المتسللين وعملاء الأجهزة الأمنية في الحملة الرئاسية الأميركية لعام 2016، ما أعطى دفعة كبيرة للشعبوي دونالد ترمب، كما يصفه جوفير.
أوكرانيا متعددة “الاستقلالات”:
1917
يقول العالم والفيلسوف الأوكراني غريغوري نيميريا: “تزيد أهمية كون المرء من منطقة دونباس عن كونه روسي أو أوكراني الجنسية، ولذلك فإن انهيار الاتحاد السوفياتي يعني بالطبع ظهور الهوية والولاء الإقليمي. وعلى أية حال، فإن الناس لا يحددون العرق الذي ينتمون إليه صراحة، لأن معظم العائلات، كعائلتي، لها أصول مختلطة”. ويوافقه الرئيس الروسي في رأيه هذا، إذ قال في خطابه، فبراير الماضي: “أوكرانيا ليست مجرد دولة مجاورة لنا، فهي جزء لا يتجزأ من تاريخنا وثقافتنا وفضائنا المعنوي. هؤلاء ليسوا رفاقنا وأقاربنا وزملاءنا وأصدقاءنا فحسب، بل هم أيضاً أقاربنا، تربطنا معهم صلة الدم وروابط عائلية”.
وكانت أوكرانيا واحدة من جمهوريات الاتحاد السوفياتي الذي ضمّ شعوباً متنوعة اللغات والثقافات، شملت حدودها غالبية مساحة منطقة أوراسيا في الفترة ما بين عامي 1922 و1991. وتمتلك تاريخاً متشابكاً مع روسيا، ما دفع الرئيس الروسي إلى الحديث عن “شعب واحد”. لكن الأمة الأوكرانية تختلف عن نظيرتها الروسية، وتتمتع الاثنتان بلغتين وثقافتين مختلفتين، على الرغم من حدودهما الجغرافية المشتركة. وفيما عملت روسيا على بناء إمبراطوريتها، لم تنجح أوكرانيا في بناء دولتها. وبعد سقوط الإمبراطورية الروسية عام 1917، نالت أوكرانيا استقلالها لفترة وجيزة عام 1918، إلى أن احتلتها روسيا السوفياتية عسكرياً عام 1921 بعد احتلال الجيش الأحمر الروسي ثلثي مساحة البلاد. ولم تصبح شبه جزيرة القرم جزءًا من أوكرانيا إلا عندما قرر الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف (وهو أوكراني الأصل) عام 1954، إهداءها لها، مكافأة على مساهمتها في بناء الاتحاد السوفياتي.
وتتصادم الروايتان الروسية والأوكرانية حول الحقائق السكانية والجغرافية والتاريخية في إقليم دونباس، لكن بحسب مراقبين، فإن ثمة تداخلاً كبيراً في هذا الإقليم بين أبناء القوميتين الروسية والأوكرانية بشكل يصعب التفريق بينهم، وهو ما عززته أواصر القربى القومية والدينية والثقافية على مدى تاريخ طويل. وكان بوتين اعترف باستقلال منطقتي دونيتسك ولوغانسك، معتبراً إياهما جمهوريتين مستقلتين.
وفي الماضي، عانت أوكرانيا مما يُعرف بـ”المجاعة السوفياتية” (1932-1933) أو هولودومور (Holodomor)، ما يعني القتل بالجوع بحسب اللغة الأوكرانية. تلك المجاعة التي كانت من صنع الإنسان، بسبب الحملة التي قادها ستالين لنشر الجمعيات التعاونية الفلاحية التي كانت تُعرف باسم الكولخوزات خلال المرحلة الشيوعية، والتي أثرت في مناطق إنتاج الحبوب في الاتحاد السوفياتي حينها، ما أدى إلى وفاة ما لا يقل عن سبعة إلى ثمانية ملايين فلاح في مناطق أوكرانيا وشمال القوقاز، ومنطقة الفولغا وكازاخستان، جنوب الأورال وسيبيريا الغربية.
1945
بعد غزو ألمانيا النازية والاتحاد السوفياتي لبولندا في سبتمبر (أيلول) 1939، توسعت أراضي أوكرانيا الاشتراكية السوفياتية غرباً. واحتلت جيوش المحور أوكرانيا من 1941 حتى 1944. وأثناء الحرب العالمية الثانية، قاتل جيش المتمردين الأوكراني من أجل استقلال أوكرانيا عن ألمانيا والاتحاد السوفياتي. وأصبحت جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفياتية من الأعضاء المؤسسين في الأمم المتحدة عام 1945. لكن بعد وفاة ستالين عام 1953، سمح خروتشوف الأوكراني بصفته رئيساً للحزب الشيوعي السوفياتي بإحياء أوكرانيا. وعام 1954 توسعت الجمهورية إلى الجنوب مع تحويل القرم من روسيا. ومع ذلك، استمر القمع السياسي ضد الشعراء والمؤرخين والمثقفين الآخرين، كما هي الحال في جميع أنحاء الاتحاد السوفياتي.
1991
نالت أوكرانيا استقلالها مرة أخرى عندما تفكك الاتحاد السوفياتي، في الأول من ديسمبر (كانون الأول) 1991، فصوّتت أوكرانيا التي كانت جمهورية سوفياتية حينذاك في استفتاء على استقلالها الذي اعترف به الرئيس الروسي بوريس يلتسين. ومن ثم، وقّعت روسيا وأوكرانيا وبيلاروس اتفاقية تأسيس “رابطة الدول المستقلة” في 8 ديسمبر. لكن أوكرانيا سعت بعدها بخمسة أعوام إلى التخلص من الوصاية السياسية لجارتها الكبرى، المستمرة منذ 300 عام. ونتيجة لذلك، لم تلتزم التزاماً كاملاً بـ”رابطة الدول المستقلة”.
وبعد أعوام قليلة من انتهاء الحرب الباردة، تعهدت روسيا وبريطانيا والولايات المتحدة، بموجب اتفاقية وُقّعت في “بودابست”، في 5 ديسمبر 1994، باحترام استقلال أوكرانيا وسيادتها وحدودها مقابل تخلّي كييف عن أسلحتها الذرية الموروثة من الاتحاد السوفياتي. وفي 31 مايو (أيار) 1997، وقّعت روسيا وأوكرانيا معاهدة صداقة وتعاون من دون إزالة الغموض الذي يلف علاقات كييف مع حلف شمال الأطلسي “ناتو”، في حين باتت معارضة موسكو بشدّة انضمام أوكرانيا أو أي جمهورية سوفياتية سابقة إلى الحلف، معروفة.
الثورة البرتقالية نموذجاً
ما بين نوفمبر (تشرين الثاني) 2004 ويناير (كانون الثاني) 2005، وفي مشهد عُدّ الأكثر تأثيراً منذ سقوط حائط برلين، تمكّن مئات الآلاف من المتظاهرين سلمياً في ما عُرف بـ”الثورة البرتقالية” من تغيير نظام الحكم في أوكرانيا. بسبب تزوير الانتخابات الرئاسية لصالح المرشح المدعوم من روسيا فيكتور يانوكوفيتش، ضد منافسه الإصلاحي فيكتور يوشينكو، الذي دعا الناس إلى الخروج في تظاهرات واحتجاجات تطالب بإعادة الانتخابات حينها. وخلال فترته الرئاسية، قطعت روسيا إمدادات الغاز عن البلاد مرتين، عامي 2006 و2009، كما قطعت أيضاً إمدادات الغاز إلى أوروبا والمارّة عبر أوكرانيا. وتحوّلت “الثورة البرتقالية” إلى نموذج عابر للحدود، ووصلت أصداؤها إلى مصر وشرق أفريقيا، ما دفع روسيا ودولاً أخرى كالصين وأوزبكستان إلى تحذير مواطنيها من أن أية تنظيمات “برتقالية” سيتم سحقها بيدٍ من حديد. لكن وبعد خمسة أعوام من ذلك الحدث، أطاح الناخبون الأوكرانيون زعيم الثورة فيكتور يوشينكو، ومن بعده شريكته يوليا تيموشينكو، وخرجت وسائل الإعلام في العالم لتعلن “الموت الحزين للثورة البرتقالية”.
تولّى يانوكوفيتش الرئاسة بحصوله على 48.95 في المئة من الأصوات، بفارق ضئيل عن تيموشينكو بنسبة 45.47 في المئة. وقد وصف أنصار يانوكوفيتش عودته إلى السلطة ونجاحه في الانتخابات بأنه “نهاية للكابوس البرتقالي”، وفقاً لموقع “BBC”. ولإزالة حطام سوء التفاهم والمشكلات القديمة التي ظهرت خلال أعوام السلطة البرتقالية” عام 2008، حاول الرئيس الأميركي آنذاك جورج دبليو بوش، إدماج أوكرانيا وجورجيا في “ناتو”، وقبول عضويتهما من خلال برنامج تحضيري، ما دفع بوتين إلى الاحتجاج. وأعلنت موسكو بشكل صريح أنها لن تقبل الاستقلال التام لأوكرانيا، كما قامت كل من فرنسا وألمانيا بالحيلولة دون تنفيذ بوش لخطته. ولأن مسألة الانضمام إلى “ناتو” لم تنجح بسرعة، حاولت أوكرانيا الارتباط بالغرب من خلال اتفاقية تعاون مع الاتحاد الأوروبي. وفي صيف عام 2013، بعد أشهر قليلة من توقيع الاتفاقية، مارست موسكو ضغوطاً اقتصادية هائلة على كييف، وضيّقت على الواردات إلى أوكرانيا. وعلى خلفية ذلك، جمّدت حكومة الرئيس الأسبق يانوكوفيتش، الذي فاز بالانتخابات عام 2010 الاتفاقية، وانطلقت احتجاجات معارضة للقرار، أدت لفراره إلى روسيا في فبراير 2014.
هل يفقد بوتين السلطة؟
في تحليل لصالح “BBC”، يتحدث جيمس لاندال، مراسل الشؤون الدبلوماسية، عن سيناريو “انقلاب” ضد بوتين، ويقول إنه عند إطلاق العملية العسكرية ضد أوكرانيا، صرّح الرئيس الروسي: “نحن مستعدون لأي نتيجة كانت”. فيما يتساءل مراقبون: ماذا لو كانت النتيجة أن يفقد السلطة؟. ويقول البروفيسور لورنس فريدمن، أستاذ الدراسات الحربية في “كينغز كوليدج” في لندن: “تغيّر النظام محتمل اليوم في موسكو مثلما هو محتمل في كييف. الحرب الروسية الأوكرانية تنقلب إلى كارثية، وآلاف الجنود الروس يموتون. وهذا ما يزيد من مخاطر اندلاع ثورة شعبية. فربما يلجأ بوتين إلى قوات الأمن الداخلي لقمع هذه الثورة، ولكن قد تنفلت الأمور من يديه، فينقلب عليه عدد كافٍ من السياسيين والعسكريين والنخبة. ويقول الغرب إنه إذا رحل بوتين وحل محله قائد معتدل، فإن العقوبات ستُخفف عن روسيا وتعود العلاقات الدبلوماسية إلى طبيعتها مع موسكو. وقد يحدث انقلاب عسكري دموي، فيترك بويتن السلطة. ولا يبدو هذا الأمر أيضاً مرجحاً الآن. ولكنه ليس مستبعداً، إذا شعر الأشخاص المستفيدون من بوتين بأنه لم يعُد قادراً على حماية مصالحهم”.