وقائع من “العبث اللبناني” في إهمال العاصفة الأوكرانية الهوجاء!

النشرة الدولية –

في غالبية دول العالم، فرضت التداعيات الناجمة عن غزو روسيا لأوكرانيا نفسها على أولويات القوى الحاكمة، حتى وصل الأمر بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، المرشّح لولاية ثانية، الى “إهمال” الحملات الانتخابية التقليدية الخاصة بالإستحقاق الداهم.

ويعود ذلك إلى أنّ هذه الحرب التي يقودها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ويقف الغرب في مواجهتها من دون أن ينخرط فيها، لها انعكاسات خطرة على الاقتصاد عموماً وعلى “السلّة الغذائية”، خصوصاً.

ووفق تقديرات الباحثين الإقتصاديين والبنك الدولي، فإنّ أكثر الشعوب التي سوف تدفع غالياً ثمن هذه الحرب هي التي تعيش في دول تعاني إمّا من اقتصاد ضعيف وإمّا من اقتصاد منهك.

وفي قائمة الدول التي تواجه مخاطر المجاعة تبرز دول عدّة يتقدّمها كلّ من لبنان وسوريا واليمن وسائر الدول التي تسعى “الجمهورية الإسلامية في إيران” إلى فرض هيمنتها الناجزة عليها.

ومن يُدقّق في نهج القوى المتحكّمة بهذه الدول، يجد أنّها تتفرّغ لصراعاتها السلطوية، من دون أن تُعير أيّ اهتمام استثنائي للكارثة الجديدة التي سوف تضاعف المآسي الناجمة، أصلاً، عن الكوارث الكبرى الموجودة قبل الرابع والعشرين من شباط/فبراير الأخير، تاريخ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا.

وإذا كان بشّار الأسد يُمعن في حربه ضدّ شعبه الجائع والنازح والمهجّر والمعتقل والمسحوق، معرقلاً كلّ الحلول التي تتمحور حول القرار الدولي رقم 2254، فإنّ “حوثيي” اليمن يُصرّون على تصعيد عملياتهم الإرهابية التي تستهدف، بما تزوّدهم به طهران من أسلحة، المنشآت المدنية ومصادر الطاقة في المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتّحدة، بدل التجاوب مع مبادرات السلام التي صدرت، أخيراً عن مجلس التعاون الخليجي وقبلها عن هيئة الأمم المتّحدة، بما يُخفّف من وطأة الكوارث التي يتخبّط بها اليمنيّون.

وإذا كانت القوى المتحكّمة بسوريا واليمن تتذرّع بالحرب للتغطية على الإهمال المقصود لموجب الاهتمام بشعبيهما، فإنّ المثال اللبناني يبدو الأكثر فظاظة، إذ إنّه، في ظاهر الحال، لا حرب في لبنان، ومؤسساته الدستورية مكتملة، وجميع المسؤولين فيه يدّعون أنّ الشعب هو أولويتهم المطلقة، في حين لم تنفض القوى الدولية والإقليمية أياديها منه، كما هي عليه حال فرنسا التي تتحرّك ودول الخليج العربي والصناديق والمصارف الدولية، من أجل إنقاذه، ولو جزئياً، ممّا يعاني منه.

ولكن ما يكشفه نهج المتحكّمين بلبنان يُظهر، بالوقائع والأدلّة، أنّهم في واد بينما مصالح الناس، في واد آخر.

وحتى تاريخه، وعلى الرغم من مرور الزمن على موعدين سبق أن حدّدتهما كل من مصر والأردن، لبدء تزويد لبنان بالغاز والكهرباء، بتمويل من البنك الدولي، فإنّ شيئاً لم يصل بعد.

لماذا؟

لأنّ الحكومة اللبنانية لم تستطع أن تقنع البنك الدولي الذي سيتولّى التمويل بجديتها، فهي، وبفعل القوى المهيمنة عليها التي تهتم بأحجامها الانتخابية من جهة أولى، وبمصالحها المالية من جهة ثانية، وبتوجّهاتها الاقتصادية من جهة ثالثة، منعتها من تحقيق الإصلاحات التمهيدية التي لا مناص منها.

ووفق النائب وائل أبو فاعور فإنّ ما سمّاه “تيار العتمة” في إشارة واضحة إلى “التيار الوطني الحر” الذي يترأّسه النائب جبران باسيل، صهر رئيس الجمهورية ميشال عون ” يريد فرض معمل لا لزوم له في سلعاتا، ولا يريد تشكيل هيئة ناظمة ترفع سطوته عن ملف الكهرباء وفظائعها”.

القوى المناوئة سياسياً لأبي فاعور لا تناقض واقعة سقوط المواعيد المحدّدة لوصول الغاز المصري والكهرباء الأردنية الى لبنان، ولكنّها تضع اللوم على الولايات المتّحدة الأميركية التي لم تُصدر بعد استثناء على “قانون قيصر” يسمح بتمرير مصادر الطاقة الى لبنان عبر سوريا.

المعنيون الأميركيون بالمسألة يصطفّون الى جانب النائب اللبناني المقرّب جداً من رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط، ويؤكّدون أنّ “الإستثناء” على القانون الذي يمنع كلّ تعامل تجاري ومالي مع النظام السوري، لا يمكن أن يصدر إلّا بعد توصّل لبنان والبنك الدولي الى اتفاق يضمن الإصلاحات التي تحول دون حصول عمليات فساد مالي وسياسي.

ولا يُهمل الأميركيون أنّ وزارة الطاقة، على الرغم من الزعم بأنّه عُهد بها الى وزير اختصاصي، تتبع، فعلياً، تعليمات النائب جبران باسيل الذي سبق أن أدرجته وزارة الخزانة الأميركية في قائمة العقوبات، بسبب “ارتكابه جرائم فساد”، وذلك بموجب قانون “ماغنيتسكي”.

وما يصحّ على الغاز المصري والكهرباء الأردنية يصح أيضاً على الوقائع القضائية، إذ إنّه، بدل الإنكباب على إطلاق “ورشة تشريعية” تهدف الى حماية المودعين، من جهة وتُطلق سراح الوظيفة الاقتصادية التي تتولّاها المصارف، من جهة ثانية، وتعطي ضحايا انفجار مرفأ بيروت الحدّ الأدنى من حقهم في معرفة حقيقة ما حصل، من جهة ثالثة، فقد تمّ، وعلى خلفية الحملات التمهيدية للإنتخابات النيابية المقرّرة في منتصف أيّار (مايو) المقبل، فتح معركة قضائية-مصرفية-سياسية-إعلامية.

وإذا كان قد كُتب الكثير عن وقائع هذه المعركة، وتالياً لا حاجة للتكرار، فإنّ الكتاب الذي وجّهته، أمس النائب العام الإستئنافي غادة عون الى مجلس القضاء الأعلى، يُلفت الإنتباه، بقوة.

في هذا الكتاب ناشدت عون مجلس القضاء الأعلى” التدخل لوقف الحملات الشعواء على القضاة، اقلّه ليس فقط للحفاظ على هيبة القاضي، انما لعدم تعميم ظاهرة الفجور الاعلامي والافلات من العقاب”.

وفي كتابها سمّت نفسها وعدداً من القضاء المهتمين بملفات مصرفية، ولكنّها لم تسمّ، مثلاً، المحقق العدلي في قضية مرفأ بيروت طارق البيطار الذي لم يتعرّض ل”فجور إعلامي” فحسب بل تعرّض لتهديدات ب”قبعه”، أيضاً.

قد يكون إهمال إسم المحقق البيطار من كتاب عون متعمَّداً، إذ إنّ القوة الأساسية التي تستهدفه يقودها “حزب الله”، حليف الجهة السياسية التي تنتمي إليها النائب العام الإستئنافي في جبل لبنان، ووفّرت لها الحماية، أكثر من مرّة.

وفي مطلق الحال، فإنّ القاضي عون محقّة في مناشدتها مجلس القضاء الأعلى لمناصرتها، إذ إنّه، وفق التسلسل الهرمي الذي تعمل بموجبه النيابات العامة الإستئنافيّة، فأعمال قاض واحد تعكس نفسها على مجمل الجسم القضائي، فإن أصاب يكون الجسم القضائي قد قام بواجباته، وإن انحرف يصاب الجسم القضائي كلّه بالوهن، إن لم يتحرّك بسرعة، تصحيحاً وتقويماً.

قبل مدّة، لم تكن هذه المناشدة في مكانها الصحيح، إذ إنّه سبق لمجلس القضاء الأعلى أن اتّخذ مواقف واضحة ضد منهجية القاضي عون، وطلب في مشروع التشكيلات القضائية الذي عطّله رئيس الجمهورية ميشال عون نقلها من منصبها، وأحالها، بموجب اتفاق مع النائب العام التمييزي، إلى هيئة التفتيش القضائي.

لكنّ عون، وبفعل الضغط السياسي لمصلحتها، انتصرت على هذا التملّص القضائي منها، وعادت وتحصّنت في منصبها، من حيث عادت الى “عاداتها القديمة”، من دون أن يصدر أيّ امتعاض عن رؤسائها التسلسليين، بدءاً بالنائب العام التمييزي، مروراً برئيس “هيئة التفتيش القضائي” وصولاً الى وزير العدل.

وهذا يعني أنّ الجسم القضائي كلّه معني بما تفعله عون، وتالياً فعليه إمّا مناصرتها ومطاردة ما تصفه بـ “الفجور الإعلامي” وإمّا التبرؤ من أفعالها ورفع راية القانون ضد ما يعتبره كثيرون “فجوراً قضائياً”.

وفي مطلق الأحوال، فإنّ كلّ ما يحصل، كما تبيّن النتائج، يُلهي اللبنانيين، في مرحلة “غسل الأدمغة” تحقيقاً لمكاسب إنتخابية، عن المهم، وهو انكفاء المتحكّمين ببلادهم عن وجوب وضع خطة واضحة ليس لإنقاذهم من الكارثة التي سبق أن وقعوا ضحاياها، فحسب بل لحمايتهم من “عاصفة الموت” التي تهب عليهم من غزو روسيا لأوكرانيا، أيضاَ.

زر الذهاب إلى الأعلى