بعد أوكرانيا… بلد أوروبي مهدد بإنفجار حرب أهلية
بقلم: د. دانييلا القرعان
النشرة الدولية –
بداية قبل الحديث عن قوات حفظ السلام الأوروبية والأسباب التي دفعتها لنشر قواتها في مناطق الجزء الصربي من البوسنة، علينا ان نتحدث عن بداية النزاع ما بين البوسنة والصرب.
أسباب النزاع:
في 29 من فبراير و1 من مارس 1992 تم عقد استفتاء حول استقلال البوسنة والهرسك وقامت الغالبية العظمى من السكان بالتصويت لصالح الاستقلال. وقد قامت الأقلية الصربية بمقاطعة هذا الاستفتاء مما أدى الى زيادة التوتر وازداد التوتر بالمنطقة. وبعد إعلان الاستقلال، قام صرب البوسنة بالهجوم على مناطق مختلفة من البوسنة والهرسك، وأعلنوا عن تشكيل جمهورية صربيا. وبذلك أصبحت قضية حدود البوسنة والهرسك من القضايا التي أثارت العديد من المناقشات المكثفة، وبالمقابل أبدت كرواتيا رغبتها في ضم المناطق التي يسكنها الكروات البوسنيين ضمن حدود كرواتيا، وطالبت صربيا بضم صرب البوسنة إلى صربيا، بينما أصرت الحكومة البوسنية، التي تتألف في معظمها من البوشناق (أي المسلمون البوسنيون)، بالحفاظ على وحدة البوسنة والهرسك. وقد أدى التوتر المتزايد الى نشوب حرب عرقية.
في عام 1995 دخلت الأطراف المتحاربة في اتفاق لوقف إطلاق النار بعد تزايد الضغوطات الدولية. بعد أن لقى حوالي 300000 شخصا حتفهم أو أصبحوا في عداد المفقودين وتحول حوالي 2 مليون إلى لاجئين. وطبقاً لاتفاقية دايتون للسلام تم فصل البوسنة والهرسك وفقا لتقسيم عرقي. حيث تتكون حالياً من كيانين – اتحاد البوسنة والهرسك وجمهورية صريبا، بالإضافة إلى إقليم بريتشكو.
القوميون الصرب، يثيرون نزاعات في دولة البوسنة والهرسك المتعددة القوميات والأديان. وهؤلاء يتلقون الدعم من روسيا واليمين المتطرف ومناهضي الإسلام في دول الاتحاد الأوروبي، وهو ما يثير المخاوف من انفجار الوضع ونشوب نزاع مسلح. وإمكانية اندلاع حرب جديدة نتيجة تزايد تهديدات صرب البوسنة للمسلمين. في كانون الثاني / يناير الجاري اقيم عرض عسكري أمام المنصة التي وقف عليها اليمينيين المتطرفين من الاتحاد الأوروبي ودول غرب البلقان، مر عناصر شرطة جمهورية صرب البوسنة والوحدات الخاصة، وهم يمشون بخطوات استعراضية منتظمة مرتدين زيهم الموحد. وليس صدفة أن يكونوا مشابهين للوحدات شبه العسكرية الصربية التي يعتقد أنها ارتكبت الكثير من الجرائم خلال حرب البوسنة بين عامي 1992 و1995. وكانوا يهتفون خلال مرورهم أمام المنصة “من أجل الصليب، من أجل الصليب”.
العرض العسكري كان أكثر من مجرد استعراض، لقد كان إعلان حرب ضد دولة البوسنة والسلام في غرب البلقان. فمنذ شهور يهدد ميلوراد دوديك بالانشقاق عن جمهورية البوسنة والهرسك، وسط من دعوات الصرب للانفصال، ومنذ سنوات يحتفل في التاسع من كانون الثاني/ يناير بـ “يوم جمهورية صرب البوسنة-صربسكا”، رغم أن المحكمة الدستورية في البوسنة قد منعت هذا الاحتفال. وهذا التاريخ يشير إلى تأسيس “صربسكا” في السنة الأولى لحرب البوسنة عام 1992، حيث بدأ بعد ذلك مباشرة ارتكاب الجرائم بحق غير الصربيين كالقيام بعمليات تهجير قسري وقتل واغتصاب جماعي.
منذ شهور يساهم دوديك في الدعاية لتوحيد “العالم الصربي”، والانفصال بشكل كامل هذا المصطلح الذي يعد نسخة جديدة لسياسة صربيا الكبرى، التي أدت إلى حروب التسعينات وكلفت حياة الكثيرين، وجمهورية دوديك الصربية هذه، هي نتيجة لسياسة التهجير والإبادة. ويختبر الآن دوديك إلى أي مدى يمكنه أن يذهب، في تحريضه ضد “رائحة سراييفو” عاصمة دولة البوسنة التي تقطنها أغلبية بوسنية مسلمة. خطابات الكراهية التي يلقيها دوديك، لا تبقى فقط بدون عواقب، فخلال عيد الميلاد الشرقي لهذا العام والذي يحتفل به المسيحيون الأرثوذكس في السابع من كانون الثاني/ يناير، تم في العديد من مدن البوسنة وصربيا ترديد أغان تنم عن كراهية للمسلمين وتقول كلماتها “إنه عيد الميلاد، أطلقوا النار في المساجد”. وأبناء الأقليات العرقية التي هربت خلال الحرب من المناطق التي احتلها الصرب، وعادوا بعد معاهدة دايتون للسلام، باتوا يخافون الآن على سلامتهم.
مؤيدون لحرب جديدة! “اللهجة الفاشية لدوديك تؤتي ثمارها” روسيا أيضا تدعم توجهات دوديك. حيث استقبله في شهر كانون الأول/ ديسمبر الماضي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي فتح بعد تهديداته وحشد جيشه على حدود أوكرانيا، جبهة جديدة في البلقان لزعزعة استقرار الاتحاد الأوروبي. وليس صدفة تزامن التصعيد في أوكرانيا والبوسنة.
نشر قوات حفظ السلام الأوروبية تزامنا مع دعوات الصرب للانفصال:
يخشى سكان البوسنة المزيد من التصعيد والاستفزاز، ففي العاشر من كانون الثاني/ يناير 2022، أي بعد يوم من الاستعراض العسكري في بانيا لوكا، تجمع السكان القلقون أمام مقر المندوب السامي للبوسنة والهرسك، المسؤول عن مراقبة الالتزام باتفاقية دايتون، ونادوا بأعلى صوتهم “عقوبات. عقوبات”. أيضا في العديد من المدن الأوروبية تظاهر المئات مطالبين برد قوي على “مشعلي النار” في البوسنة.
أصف موقف الاتحاد الأوروبي من القضية بأنه “ساذج وغير مبالي”، وإن دوديك يذهب بعيدا إلى حيث يسمح به المجتمع الدولي، والذي ينتقده بايروفيتش بشدة لأنه ومنذ عام 2006 لم يبد استعداده للدفاع عن اتفاقية دايتون للسلام. والعرض العسكري الأخير في بانيا لوكا ليس إلا نتيجة لهذه السياسة. وصحيح أن الولايات المتحدة فرضت هذا الشهر عقوبات على دوديك، لكن ارى أن تلك العقوبات غير كافية. وارى انه يجب ان يكون هنالك “رد أمني قوي وسريع” من خلال تعزيز كبير لقوات حفظ السلام الأوروبية “يوفور” ومهمات منتظمة للناتو في البوسنة. هذا ومن المقرر إرسال 120 جنديا من الناتو لوضع حد للمساعي الانفصالية ولنزاع مسلح محتمل هناك.
دايتون… اتفاق هدنة وسلام وليس اتفاقا لتأسيس دولة حقيقية: ” قوات حفظ السلام الأوروبية ”
لا مراء في أن اتفاقية دايتون للسلام أوقفت أسوأ عدوان وإبادة جماعية على أرض أوروبية منذ الحرب العالمية الثانية. فقد كان عدم قدرة الولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين على الاتفاق على طرق لوقف القتل؛ أكبر فشل عبر المحيط الأطلسي في العقود السبعة الأخيرة. لكن، بالنظر إلى سجل الحرب على البوسنة والهرسك المليء بالمآسي والكوارث، فإن السلام الذي تم التوصل إليه في دايتون عام 1995 نُظر إليه على أنه نجاح مذهل ومدهش. فمن وجهة نظر القدرة التفاوضية الفنية والهدف ذي الأولوية، المتمثل في إسكات الأسلحة، يمكن القول إن اتفاقية دايتون تعاملت مع الأوضاع في حينها بشكل جيد، وكانت محاولة ناجحة لبلوغ السلام على أساس افتراض أن “الاتفاق الأمثل لكل طرف من أطراف الصراع” كان مستحيلًا في تلك المرحلة القصوى من الصراع. لذلك كان الأمر يتعلق بالوصول إلى نقطة توازن مثالي بين المواقف المتباينة والمخاوف الوجودية للأطراف، التي من شأنها ضمان الاستقرار الفوري والتقدم نحو السلام، حتى لو كان مؤقتًا، ليكون الانتقال من حالة “بناء السلام” إلى “تعزيز السلام” في فترة لاحقة. وكان التزام المجتمع الدولي بنشر مهمة عسكرية ذات مصداقية وحجم ووسائل متناسبة مع الاحتياجات والتفويض المناسب؛ أمرًا حاسمًا على الأرض. وهكذا تتالت المهام الدولية والأوروبية لحفظ وتعزيز السلام المنبثق عن دايتون بدءًا بـ”القوات الدولية لحفظ السلام” (IFOR)، تلتها “قوة حفظ السلام” (SFOR)، وأخيرًا “قوات الاتحاد الأوروبي في البوسنة والهرسك” (EUFOR).
يبدو واضحا أن اتفاقية دايتون باتت ترتبط بفرض السلام بدرجة أكبر من ارتباطها بإصلاح الخلل الوظيفي الذي أصبحت عليه دولة البوسنة والهرسك. ويعود ذلك جزئيًّا إلى أن الاتفاقية كانت هدنة أكثر منها تسوية سياسية شاملة ونهائية، فقد جمَّدت مواقعَ الأطراف المتحاربة (جمهورية صربسكا والاتحاد الفدرالي بين المسلمين والكروات) وكافأت السيطرة على الأراضي على أساس عرقي. ومنذ ذلك الحين، تلاعب القوميون الإثنيون، أو الكليبتوقراطيون، بالأحكام المضمَّنة في اتفاقية دايتون لترسيخ سلطاتهم على حساب قدرة البلاد على البقاء.
فالدستور الذي منحته الاتفاقية للبوسنة والهرسك(7) عبَّر بشكل حصري عما أسماها مصالح “الشعوب المكوِّنة، وهي: الشعب البوشناقي-المسلم والشعب الكرواتي والشعب الصربي”؛ ولم يُعرِّف سيادة دولة البوسنة والهرسك بوصفها تعبيرًا عن رغبة وإرادة شعبها أو مواطنيها حتى تكون ديمقراطية تمثيلية حقيقية؛ وهو ما أدى بالضرورة إلى التمييز العنصري واستثناء باقي الجماعات والشعوب التي تتوزع على 17 إثنية أخرى، تمثِّل بدورها رافدًا لشعوب جمهورية البوسنة والهرسك، وفقًا للإحصاء السكاني للعام 1991.