عندما تخترق إسرائيل الأمن الإيراني
بقلم: طوني فرنسيس

مسؤول مكافحة التجسس كان عميلاً لتل أبيب فماذا عن قادة التطرف الآخرين؟

النشرة الدولية –

قد يبدو مثيراً للدهشة أن نجد الجهاز الحاكم في إيران لا يخص إسرائيل بخطابه التحرري بوصفها دولة تحتل القدس، وعلى الرغم من إنشائه فيلقاً باسم المدينة، إلا أنه يكتفي بخوض معارك كلامية كبرى بشأنها، فيما ينشغل “فيلقها”، كذراع خارجية لطهران، بالتمدد في دول عربية محيطة، من الخليج إلى بلاد الرافدين والشام وصولاً إلى اليمن.

الدهشة ستزول عندما نعلم إلى أي حد يصل الاختراق الإسرائيلي لأجهزة الأمن الإيرانية، ومنها الحرس الثوري، ومن ثم طرح تساؤل عن استخدام “العملاء” الإيرانيين في ما يتعدى الأهداف الإسرائيلية المباشرة المتعلقة بمنع طهران من التحول لدولة نووية، وهل من بينهم من يعملون لصالح تل أبيب في البلاد الخاضعة للنفوذ الإيراني؟

كان تقرير محطة الإذاعة البريطانية “BBC” مطلع فبراير (شباط) الماضي مُثيراً في كشفه بعض جوانب التغلغل عالي المستوى لأجهزة المخابرات الإسرائيلية في إيران، ودعمت سلسلة طويلة من الأحداث على مدى عقدين فعالية هذا التغلغل، ثم جاءت تقارير أخرى لتكشف كيف أسهمت متابعة اتصالات إيرانية بقيادة “داعش” في تسهيل مهمة الأميركيين بالقضاء على زعيم التنظيم إبراهيم القرشي على مقربة من المواقع التركية في سوريا.

في تقرير المحطة البريطانية سرد لسلسلة حوادث، انطلاقاً من اغتيال العالم النووي الإيراني محسن فخري زادة. وروى التقرير أنه في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2020، تعرض موكب يقل محسن فخري زاده، لإطلاق نار، ليُقتل أبرز عالم نووي إيراني بسلاح رشاش يعمل بالتحكم عن بعد بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي، دون وقوع إصابات في صفوف المدنيين، في عملية اغتيال لا تتم بتلك الطريقة الدقيقة والمحكمة، إلا إذا كانت تستند إلى معلومات استخباراتية دقيقة على الأرض وقت التنفيذ.

أضاف التقرير، “بعد جريمة القتل، ادعى وزير الأمن الإيراني محمود علوي، أنه قبل شهرين من وقوعها، حذر قوات الأمن من وجود مؤامرة اغتيال تستهدف فخري زادة في المكان المحدد الذي نُفذت فيه عملية الاغتيال. وقال علوي إن الشخص الذي خطط للعملية كان من أفراد القوات المسلحة، وبطبيعة الحال لم نتمكن من تنفيذ عمليات استخباراتية ضدها”.

الوزير الإيراني ألمح إلى أن الجاني كان عضواً في الحرس الثوري الإيراني، الوحدة العسكرية التي تضم النخبة في إيران، ما يعني أن المسؤول عن تنفيذ الاغتيال على مستوى عال وبدرجة كافية في الحرس حتى يتمكن من المضي في تنفيذ عمليته.

الحرس الثوري الإيراني “مُخترق”

بعد اغتيال زادة، تواترت أنباء عن أن ثمة عشرات من كبار قادة الحرس الثوري الإيراني محتجزون في سجن إيڤين، “لكن الحكومة لا تنشر أسماءهم ورتبهم لتجنب تشويه سمعة الحرس الثوري”. مثل هذه المعلومات ترددت في مناسبتين أخريين على الأقل إثر اغتيال قاسم سليماني، وبعد القضاء على القرشي، في سيناريو يشبه ما قالته دمشق فور اغتيال المسؤول في “حزب الله” عماد مغنية على أراضيها، عندما وعدت بكشف المرتكبين، لكنها أغفلت لاحقاً الحديث عن أية نتائج ملموسة.

في التقرير البريطاني، قال ضابط استخبارات سابق في “فيلق القدس”، إن الوكالات الأجنبية جمعت أدلة ضد عدد من السفراء الإيرانيين وقادة الحرس الثوري الإيراني، وإن تلك الأدلة تتضمن معلومات حول علاقات مع نساء، يمكن استخدامها لابتزاز هؤلاء المسؤولين لإجبارهم على التعاون مع جواسيس أجانب.

وعاد التقرير بالذاكرة إلى أواخر يناير (كانون الثاني) عام 2018، عندما اقتحم عشرات الرجال منشأة تخزين في منطقة صناعية على بعد 30 كيلومتراً من طهران. كان هناك 32 خزنة، لكنهم كانوا يعرفون أياً منها يحتوي على أكثر المواد قيمة، وفي أقل من سبع ساعات قاموا بإذابة أقفال 27 خزنة، وأخذوا نصف طن من المحفوظات النووية السرية وغادروا المكان من دون أن يخلفوا وراءهم أي أثر. كانت تلك واحدة من أكثر عمليات السرقة الجاسوسية جرأة في تاريخ إيران، لكن المسؤولين الإيرانيين التزموا الصمت وتكتموا عليها بشكل كامل.

بعد ثلاثة أشهر، ظهرت الوثائق المسروقة على بعد 2000 كيلومتر، تحديداً في تل أبيب بإسرائيل. وقد عرض رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، بنيامين نتنياهو، المواد المسروقة قائلاً، إنه حُصل عليها بعد عملية ناجحة للموساد، فيما نفى المسؤولون الإيرانيون، بشكل قاطع، حدوث السرقة، وقالوا إن الوثائق ملفقة. لكن في آخر يوم له في منصبه، في أغسطس (آب) 2021، أكد الرئيس الإيراني حسن روحاني أن إسرائيل سرقت الوثائق النووية الإيرانية، وعرضت الأدلة على الرئيس الأميركي حينها دونالد ترمب.

وكان نتنياهو سلط الضوء، حين استعرض الأرشيف في مؤتمر صحافي عُقد خصيصاً لهذا الغرض في أبريل (نيسان) 2018، على دور محسن فخري زادة، وردد مراراً وتكراراً في ذلك المؤتمر “دكتور محسن فخري زادة.. تذكروا هذا الاسم”، وبعد عامين اغتيل الرجل.

في العقدين الماضيين قُتل عدد من أبرز العلماء النوويين الإيرانيين، كما وقعت عمليات تخريب متعددة في المنشآت النووية والعسكرية الإيرانية، لكن حتى الآن فشلت قوات الأمن الإيرانية إلى حد بعيد في منع حدوث أي منها، أو في القبض على المهاجمين والمتآمرين، ما يشير إلى حجم التغلغل الاستخباري ورسوخه في جسم السلطة الدينية.

في نهاية عام 2013، راجت إشاعات بأن قادة في الحرس الثوري الإيراني وضباط مخابرات قد تم اعتقالهم بتهمة التجسس لصالح الموساد، وكان أحد المتهمين الضابط المسؤول عن مكافحة التجسس ضد إسرائيل في وزارة الأمن الإيرانية، لاحقاً أكد الرئيس السابق أحمدي نجاد أن الموساد قد اخترق وزارة استخباراته، وقال، “هل من الطبيعي أن يكون أكبر ضابط مسؤول عن السيطرة على الجواسيس والمسؤول عن مواجهة المؤامرات الإسرائيلية في إيران (هو نفسه) عميلاً لإسرائيل؟”.

بدوره حذر وزير المخابرات الإيراني السابق وكبير مستشاري الرئيس روحاني، علي يونس، من أن “نفوذ الموساد في أجزاء كثيرة من البلاد بات كبيراً لدرجة أن كل عضو في القيادة الإيرانية يجب أن يشعر بالقلق على حياته وأمنه وسلامته”.

الواقع أن هذه التحذيرات لا تفتقر إلى شواهد إثبات، فالضربات الإسرائيلية ضد إيران لم تتوقف في الداخل والخارج، وغالباً ما كانت تتم بفاعلية ومن دون أن تتمكن الأجهزة الإيرانية من كشف مرتكبيها، فالضربات الأخيرة على قاعدة “كرمنشاه” للطائرات المسيرة، وأبيدت خلالها مئات المسيرات، كانت واحدة من العمليات التي تحتاج تعاوناً وثيقاً ومعلومات أكيدة، وهي مهمة جداً لإسرائيل بعد تحول السلاح الجديد الى عامل حيوي في الحروب الحديثة.

وقد كذبت السلطات الإيرانية بشأن تلك الضربات، فتحدثت تارة عن برق ورعد، وأخرى عن مناورات عسكرية، إلا أن الحقيقة انكشفت بعد أشهر، بمناسبة إطلاق الصواريخ الإيرانية على ما سمته إيران قاعدة للموساد في أربيل، انطلقت منها إسرائيل في هجومها على “كرمنشاه”. لكن الرواية الإيرانية بهذا الشأن كانت مزدوجة، حيث أضافت مبرراً آخر لقصف أربيل، وهو الرد على مقتل ضابطين إيرانيين في غارة إسرائيلية قرب دمشق.

وتقود متابعة العمليات الإسرائيلية ضد إيران وميليشياتها في سوريا إلى استنتاج وحيد، وهو مدى دقة المعلومات التي تحصل عليها تل أبيب عن التحركات الإيرانية في هذا البلد.

عام الذروة

كان 2020 عام ذروة في الضربات الإسرائيلية، أو المنسوبة لها داخل إيران، ففي يونيو (حزيران) ومطلع يوليو (تموز) استهدفت سلسلة تفجيرات البرنامج النووي والصاروخي الإيراني مباشرة من الداخل، أو بواسطة المسيرات، أو بهجمات سيبرانية. واستهدفت الضربات منشأة لصنع الصواريخ ومركزاً طبياً في طهران، وتفجيراً داخلياً في محطة نطنز النووية، ومحطة للكهرباء في الأهواز، قيل إنها منشأة سرية. قبل ذلك كانت مخازن الحشد الشعبي العراقي الموالي لإيران تشهد سلسلة تفجيرات، في أسلوب سنشهد مثله ضد مخازن ومواقع لـ”حزب الله” في لبنان.

توقفت تلك النشاطات الاستخبارية، أو همدت مع عودة المفاوضات في فيينا بشأن خطة العمل المشتركة. وقيل إن ذلك تم بضغط أميركي، كي لا تتعرض المفاوضات إلى انتكاسة. لكن ذلك لا يعني أن أنشطة الموساد قد انتهت، فربما يستخدم وقت الراحة لتمتين الشبكات العاملة، التي لا يبدو أنها تتأثر بإعلان الحرس الثوري عن اعتقال مجموعة منها منتصف الشهر الجاري كانت تعد لـ”عملية تخريبية”.

بعد سرد تلك الوقائع، لم يعد هناك شك أن الأجهزة المعادية للسلطة في طهران باتت حاضرة بقوة، أما كيف يحدث ذلك، فلأسباب عدة، أولها وجود نقمة واسعة عليها، وثانيها الإغراءات المادية، وثالثها، وهو الأهم، سهولة اختراق التنظيمات العقائدية المغلقة، حيث يسهل على المزايدين في العقيدة أو الدين تسلق أعلى المراتب، وليس صعباً على عناصر استخبارية مدربة وتمتلك ثقافة السلطة المغلقة، امتلاك مفاتيح التسلق والوصول كي تتمكن من لعب دورها.

لكن السؤال الذي سيبقى بحاجة إلى أجوبة وإيضاحات هو، ماذا تفعل عناصر المخابرات إذا كانت تتولى مسؤوليات في قيادة الميليشيات الإيرانية العاملة في البلدان العربية، وكيف يوظفون ولاءهم المزدوج في ضرب لحمة المجتمعات التي يعملون فيها؟ .

 

زر الذهاب إلى الأعلى