النقاش في الفضاء الحر
بقلم: أحمد الصراف
النشرة الدولية –
يقول عالم الاجتماع العراقي علي الوردي، «لا يخيفني ذلك الكائن الملحد الذي يرفض وجود الله.. ما يخيفني حقاً هو ذلك الكائن الذي يقتل ويذبح، بكل إيمان، ليثبت وجود الله!».
***
وأقول أنا: لا يحزنني من لا يفهم، فسيأتي يوم ويفهم، ولكن يحزنني من يفهم، ولكنه يرفض قبول أدنى احتمال أنه على خطأ، ويؤمن بأن أفكاره تمثّل الحق والصواب، وكل من يخالفه على باطل!
***
حزنت لوفاة المفكّر سيد القمني، كما سبق أن حزنت لوفاة مفكرين آخرين من أمثاله، وخاصة الذين جاهدوا وضحوا وغامروا بأرواحهم وخاطروا بأموالهم وسمعة أسرهم، لدفع هذه الأمة للاستيقاظ من قديم أوهامها، وحثها على اللحاق بركب الدول المتقدمة، وأن تعمل لدنياها، كما تعمل لآخرتها، فدفعت ثمناً غالياً، وفوق أن قلة فقط شعرت بحقيقة معاناتهم، فقد لحقهم الكثير من الأذى والتهجم من «أشباه المثقفين، أنصاف المتعلمين»، وغالباً من المستفيدين من بقاء الإيمان بالأوهام والغشاوات الدينية على بصر وأبصار أتباعهم، خاصة بعد مماتهم، لعجزهم عن الرد على افتراءاتهم.
***
لست مصلحاً اجتماعياً، ولن أكون، ولكني أقوم بين الفترة والأخرى بإرسال رسائل، أعتبرها ذات مضامين توعوية، للقروب الوحيد الذي أشارك به.
غالباً ما أجد معارضة من البعض بحجج مثل: ما الذي استفادته «البشرية» من طروحات المستنيرين؟ وما فائدة هذه الصراعات بين التقليديين والتقدميين؟! وان من قلة الحصافة مصادمة عقائد مليارات البشر بحجج التنوير، لأن في ذلك إثارة للضغائن، ويولد الإجرام والإرهاب والتصفيات بين البشر(!). وإن عملية التنوير ما هي إلا مضيعة للوقت ولجهود التنمية، وهي حرب طواحين، فالأديان، في نهاية الأمر لن تلغى أو تختفي، وعلى دعاة الاستنارة عدم تضييع وقتهم واحترام عقائد الآخرين، والتركيز على ما ينفع الناس، وليس على ما يستفز مشاعرهم ويسفّه عقائدهم.. إلخ ذلك من آراء!
***
قد تبدو للبعض منطقية هذا الكلام، ولكن علينا تصوّر وضع البشرية، لو أن كل فرد أو أمة تمسكت بسابق معتقداتها ورفضت تغييرها أو إصلاحها، فهل سيكون لدينا دين غير الذي عرفته البشرية قبل عشرة أو خمسة آلاف سنة؟
يعتقد التنويرون أن جزءاً كبيراً من البشر، رغم أنهم أحرار، سعداء ببقائهم قصّراً مدى حياة، باختيارهم العيش في خمول وجبن، لعدم وجود الشجاعة أو الرغبة في البحث عن الحقيقة، لذا يسعى التنويريون إلى حماية الإنسان وتعليمه ليصبح ناضجاً وقادراً على الاعتماد على نفسه، وأن يستخدم عقله للتحرر من المعتقدات الغريزية في الحقائق المعطاة، سواء تلك الفطرية التي تشكلت في ميدان المعرفة، أو تلك المستوحاة من الأديان.
كما أن التنوير، الذي بدأ عصره عام 1685 وانتهى عام 1815، لم يكن يوماً معادياً للعقائد الدينية، والدليل أن الدين المسيحي مثلاً، لا يزال هو السائد في أوروبا، مهد حركة التنوير، وسيبقى، ولكن التنوير فتح الباب أمام عصر النهضة، الذي لم يتوقف من يومها، فالتغيير سنة الحياة، والإنسان يسعى دائماً إلى الأفضل!
***
من جهة أخرى، ومن منطلق ليبرالي بحت، لا عاقل يقبل بتسفيه عقائد الغير، ولا الاستخفاف بها وبعقلياتهم. ولا يعني ذلك أن النصوص يجب أن تبقى جامدة، فهذا لم يحدث طوال تاريخ أي دين. ولكن المشكلة أن صاحب الحجة الأضعف والإيمان المتزعزع يلجأ إلى إرهاب الآخر، وإسكات صوته، ويتحاشى النقاش نتيجة ضعف معرفته!
فلو راجعنا العقوبات المنصوص عليها في الكثير من العقائد، لوجدنا أن أتباعها تخلوا عنها لسبب أو لآخر، واستنبطوا قوانين وعقوبات «أرضية وضعية، أكثر تماشياً مع ظروفهم المعيشية»، ولكن لا هذا القول ولا العمل بالمقولة يلائم رجال المؤسسة الدينية، وليس في مصلحتهم، وفي سبيل ذلك يكفّرون كل محاولات التطوير والتمدين، ومعروف المصير المؤلم الذي لقيه الحداثيون، من المسيحيين والمسلمين، على مر التاريخ، على يد رجال الدين!
***
يعرف عصر التنوير بعصر المنطق، حيث هيمنت خلاله على أوروبا أفكار جديدة. ويعتبر كتاب «الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية»، الذي وضعه العبقري الأعظم في التاريخ البشري إسحاق نيوتن عام 1687، أول الأعمال التنويرية الرئيسية. ففي عصر التنوير نشر الفلاسفة والعلماء أفكارهم على نطاق واسع من خلال اللقاءات العلمية في الأكاديميّات والمحافل والصالونات الأدبية والمقاهي، ومن خلال الكتب المطبوعة والصحف والمنشورات، ونتج عن ذلك أن أفكار تلك المرحلة قوّضت السلطة المطلقة للملكيات والكنائس، ومهدت الطريق أمام الثورات السياسية، وظهور الليبرالية. وكان للعالم الإسلامي دور في تاريخ الفكر التنويري، حيث ساهم علماء، من أمثال ابن رشد وابن سينا، بأعمالهم وترجماتهم للأفكار الإغريقية، إلى تطوير وخلق مجالات علمية جديدة، وتقديم الفكر النقدي العقلاني إلى أوروبا. وقد دُرِّست الأطروحات التي قدمها ابن رشد في الجامعات الأوروبية الأولى مثل باريس، وبولونيا، وبادوا، وأكسفورد، ومع هذا لا نزال حتى اليوم نكفّر ابن رشد والرازي وغيرهما، والدليل ندرة المؤسسات الحكومية أو الخاصة التي أطلقت عليها أسماؤهم!