“الإغاثة” الخليجية لمصر تُظهر النهج اللبناني التدميري
بقلم: فارس خشان

النشرة الدولية –

عندما ظهرت على جمهورية مصر العربية، في آذار (مارس) الأخير علامات الوهن المالية-الاقتصادية، بفعل انعكاسات الحرب الروسية على أوكرانيا، هبّت ثلاث دول خليجية لتقديم دعم عاجل لها، فأودعت المملكة العربية السعودية خمسة مليارات دولار أميركي في مصرف مصر المركزي، وفتح “صندوق الإستثمارات العامة السعودي” خطاً مع مصر بقيمة عشرة مليارات دولار أميركي، فيما عجّلت كلّ من الإمارات العربية المتّحدة وقطر خطيّن استثماريين، الأوّل بقيمة ثلاثة مليارات دولار أميركي، والثاني بقيمة خمسة مليارات دولار أميركي.

وسمحت هذه “الهبّة الخليجية” تجاه مصر لحكومتها بأن تنتظر، في ظل استعادة استقرارها المالي والإقتصادي، نتائج مفاوضات كانت قد طلبتها مع “صندوق النقد الدولي”، من أجل رفدها بسبعة مليارات دولار أميركي.

قبل هذا الحدث الخليجي، بدأت مصر تخسر جاذبيتها الإستثمارية والإيداعية على خلفية تأثّرها المباشر بالحرب الروسية على أوكرانيا، وأظهرت عجزاً عن المحافظة على استقرار عملتها الوطنية.

وكان مسار الأمور يُظهر أنّ مصر معرّضة لخسائر كبيرة في احتياطاتها المالية كما في تدفّق الأموال إليها، إذ ارتفعت جداً فاتورة استيراد القمح وسائر مكوّنات السلّة الغذائية، وكثرت التكهّنات بفقدانها أعداداً هائلة من السيّاح الذين يتدفقون إليها من روسيا وأوكرانيا، وخسرت الفوائد على الودائع التي تمنحها جاذبيتها، في ظل ترقّب أن ترفع الولايات المتحدة الأميركية أسعار الفائدة على الدولار.

لم يكن هناك، على الرغم من قوّة مؤسساتها، ما يحول دون أن تذوق مصر قدراً، ولو بسيطاً، من المرارة التي تعشعش في يوميات اللبنانيين، منذ خريف العام 2019.

إلّا أنّ ذلك لم يحصل، لأنّ مصر لم تقم علاقات مميّزة مع أهم الدول الخليجية فحسب، بل نجحت في تصحيح العلاقات التي كانت متوتّرة جداً مع قطر، أيضاً.

وما حصلت عليه مصر من دعم خليجي سريع نفض عنها غبار الحرب الروسية على أوكرانيا، قبل أن يتراكم، ليس فيه أيّ نوع من أنواع الإبتكار، إذ إنّه سيناريو سبق أن جرى اعتماده في التعاطي الخليجي مع لبنان، بين العامين 1994 و2016، بحيث كانت المملكة العربية السعودية و”شقيقاتها” تسارع، كلّما واجهت “بلاد الأرز” مشاكل مالية واقتصادية، الى رفده بودائع واستثمارات ومساعدات، مقدّمة ما يحتاج إليه من دعم في المؤتمرات الدولية، ومن ضمانة في المؤسسات الدولية الاقتصادية والنقدية.

وكان المستثمرون في لبنان، على امتداد هذه الفترة، يتعاطون معه على أساس أنّ دولاً غنيّة وقوية، تحميه، وتالياً فهو، ومهما واجه من صعوبات، في منأى عن المخاطر.

لكنّ لبنان الذي كان يسير على هدي الخط الإستراتيجي الذي رسمه الرئيس رفيق الحريري متخطّياً التحدّيات والتهديدات، انقلب مع انتصار “حزب الله” في إيصال العماد ميشال عون الى رئاسة الجمهورية على هذا المسار، وانتمى، كلّياً، الى المحور الذي تقوده إيران.

وفي شباط/ فبراير 2016 نال لبنان، عن جدارة، “بطاقة الإنتماء” الى “محور المقاومة”، عندما رفضت وزارة الخارجية اللبنانية، وكانت بعهدة رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل، إدانة اعتداءات إيران على السفارة السعودية في طهران والقنصلية السعودية في مشهد.

وتمثّل الإنذار السعودي الأوّل، ضد هذا “الإنقلاب الممنهج”، في إلغاء التزامات الرياض بتزويد الجيش اللبناني أسلحة وذخائر فرنسية بقيمة ثلاثة مليارات دولار أميركي، وتجميد مساعدة مخصّصة للأجهزة الأمنية اللبنانية، بقيمة مليار دولار أميركي.

وسبق ذلك أنّه في العام 2012، وإثر تهديدات أطلقها فصيل تابع ل”حزب الله” سمّى نفسه “الجناح العسكري لآل المقداد” بخطف الرعايا الأتراك والخليجيين في لبنان، منعت دول “مجلس التعاون الخليجي” مواطنيها من زيارة لبنان والسياحة فيه، ممّا ألحق أضراراً هائلة بهذا القطاع الحيويّ المنتج للعملات الصعبة.

ومنذ شباط/فبراير 2016، خسر لبنان “بوليصة التأمين” الخليجية، فبدأ يفقد شيئاً فشيئاً ميزاته وودائعه واستثماراته، ودخلت أكثر من دولة على الخط، تتقدّمها فرنسا ومصر بالتعاون مع الأمانة العام للأمم المتحدة، من أجل أن يُعيد لبنان النظر بسياسته المعادية لمجلس التعاون الخليجي، ويعمل على تطبيق “إعلان بعبدا” الذي يتعهّد بموجبه بالنأي بنفسه عن حروب المنطقة وصراعات محاورها، ولكنّ “حزب الله” بالإشتراك مع “التيّار الوطني الحر”، بما يملكانه من قوّة، بفعل الأمر الواقع من جهة وبفعل التمّدد في المؤسسات اللبنانية من جهة أخرى، كانت لهما كلمة أخرى، بحيث رفعا مستوى التحدّي مع الدول الخليجية الى مستويات خطرة وصلت الى حدود قطع العلاقات التجارية والدبلوماسية مع لبنان.

ولهذا السبب، فإنّ الضالعين في الشأن اللبناني، ومن بينهم الرئيس السابق للجمهورية ميشال سليمان، قالوا بوضوح إنّ مشكلة لبنان العميقة لا تكمن في المال المنهوب، فحسب بل في المال المحجوب، أيضاً.

ويمكن فهم أبعاد الكلام عن المال المحجوب، بالتأمّل في نموذج عنه تمثلّه التدفّقات المالية والإستثمارية الخليجية إلى مصر، في الأيّام الأخيرة من شهر آذار/ مارس الأخير.

إنّ لبنان ينتظر، حالياً عودة السفير السعودي وليد البخاري وسفراء دول الخليج الذين غادروا معه، ولكن لا يوجد، على جدول أعمالهم، على الرغم من الوساطة الفرنسية الناشطة والكوارث، سوى معونات تربوية واستشفائية وإنسانية، وصلت قيمتها حتى تاريخه الى ستة وثلاثين مليون دولار أميركي، في بلد يحتاج، حتى يخرج رأسه من الحفرة، الى ستة وثلاثين مليار دولار.

وهذه المقارنة السريعة بين أحوال مصر ولبنان يمكنها أن تُعطي فكرة واضحة عن جدوى البرامج والوعود الانتخابية، بحيث يظهر، بشكل جلي، أنّ كلّ قوّة لا تتعهّد بالعمل الحثيث على إعادة “بوليصة التأمين” الى لبنان، هي إمّا مشوبة بنقص في تشخيص المأساة اللبنانية، أو تعمل على ترسيخ لبنان في …جهنّم!

 

Back to top button