أوروبا وحرب أوكرانيا… يقظة عملاق نائم
بقلم: رفيق خوري
استعادت نفسها وأخذت موقعها على قمة العالم... ولا استهانة باتحاد أوروبي دخله يتجاوز أميركا والصين
النشرة الدولية –
حرب أوكرانيا أيقظت أوروبا من سبات عميق دام نحو 70 عاماً بعد الحرب العالمية الثانية، لكن القارة العجوز المستيقظة لم تنس بعض الأحلام والكوابيس التي رافقتها في النوم على حرير السلام والهدوء والرفاه الاجتماعي.
أحلام، لا سيما في باريس وبرلين، حول اندماج روسيا بالغرب الأوروبي وقيام محور من “الأورال إلى الألب” كما كان يحلم به الجنرال شارل ديغول، وكوابيس بينها أن تتخلى الولايات المتحدة عن المظلة النووية فوق أوروبا وتهمل المادة الخامسة من ميثاق الحلف الأطلسي التي تفرض عليها الدفاع عن أي تهديد أمني لأوروبا، ومصدر التهديد في هذه الأيام هو روسيا وإيران.
قبل الغزو كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضيفاً مميزاً في برلين وباريس. المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل أقامت معه علاقة عمل ناجحة، بصرف النظر عن حساسيتها حيال ما كانت روسيا السوفياتية تفعله بألمانيا الشرقية حيث عاشت، وكان ضابط المخابرات بوتين أداة موسكو.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون استضاف بوتين في قصر فرساي التاريخي ثم في مقر الاستراحة الخاص للرئاسة.
أكبر ميزان تجاري في أوروبا بين ألمانيا وروسيا وأهم ممر للغاز الروسي إلى أوروبا كان عبر أوكرانيا، ثم جاء مشروع “نورد ستريم 2” عبر ألمانيا الذي أوقفه أخيراً المستشار أولاف شولتز خليفة ميركل.
معظم نفط أوروبا من روسيا، وكثير من القمح والزيت النباتي من روسيا وأوكرانيا، وبعد الحرب لم يتوقف الرئيس الفرنسي والمستشار الألماني عن الاتصال بالرئيس الروسي للحض على وقف النار أو أقله الامتناع من استهداف المدنيين والسماح لهم باللجوء إلى دول الجوار، لكن أوروبا انضمت كلها إلى العقوبات القاسية المفروضة على روسيا، وبدأت ترسل الأسلحة إلى الجيش الأوكراني الذي يواجه الهجوم الروسي.
قبل الحرب كان المسؤول عن الأمن والسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل يجد صعوبة في التسويق لمشروع “البوصلة الاستراتيجية”، وكان صوت صارخ في هدوء القارة يقول “على أوروبا أن تتعلم لغة السلطة وتتصرف من موقعها كطرف جيو-سياسي من الدرجة الأولى، وعلى الأوروبيين أن يغيروا خرائطهم الذهنية للتعاطي مع العالم كما هو وليس كما نتمنى أن يكون، لئلا تصبح أوروبا الخاسر الأول في التنافس الحتمي بين الصين وأميركا في جميع المجالات”. بعد الحرب وافق الاتحاد الأوروبي على “البوصلة الاستراتيجية” وبدأ يلعب دوره كقوة جيو-سياسية كانت في “إجازة من التاريخ”، وصار الـ “ناتو” هو الملك.
قبل الحرب أيضاً خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وحاولت منطقة “الباسك” الانفصال عن إسبانيا بالقوة، وسعت كتالونيا إلى لانفصال عنها باستفتاء شعبي، ولم تتوقف دعوات الانفصال في شمال إيطاليا الغني عن جنوبها الفقير، وكان الخوف من هيمنة ألمانيا القوية اقتصادياً على القارة ولا سيما دولها الفقيرة، والشعار هو “نريد ألمانيا أوروبية لا أوروبا ألمانية”، وكان التململ من الـ “يورو” يشتد والانتقادات لأميركا تتعاظم، وبعد الحرب توحدت أوروبا على موقف واحد متكامل مع الموقفين الأميركي والياباني ضد أية سيطرة روسية على أوكرانيا، وما عاد من السهل على روبرت كاغان أن يكرر مقولته “الأميركيون من المريخ والأوروبيون من الزهرة”، ولا من الممكن لموسكو أن تلعب بالدول الأوروبية وتدعم اليمين الشعبوي واليسار الشعبوي في كل دولة، وبدأ البحث عن خطط لفطم أوروبا عن النفط والغاز من روسيا.
ومن المبكر اليوم تصور نهاية المسار الأوروبي الجديد في لعبة “القوة الناعمة” والعودة لـ “القوة الخشنة” عبر الإنفاق الدفاعي على الـ “ناتو” كما على “قوة تدخل سريع” أوروبية، لكن الواضح أن أوروبا استعادت نفسها وأخذت موقعها في الصراع الدولي على قمة العالم، بصرف النظر عن بعض التباين في المصالح والمواقف بين دولها، ولا قوة تستطيع الاستهانة باتحاد أوروبي موحد دخله يتجاوز الدخل في كل من أميركا والصين.