كيف تلقّى الجمهور التّونسي فيلم “غدوة” لظافر العابدين؟

النشرة الدولية –

النهار العربي – بثينة عبدالعزيز غريبي –

يقول أرسطو: “التفكير مستحيل من دون الصورة”، والصّورة السينمائية بين كل هذه الصور التي نفكّر بها. فماذا حين تنتقل الثّورة إلى السينما في صورة وما للصورة من أبعاد سيميائية ومعانٍ؟

فيلم “غدوة” لظافر العابدين مجموعة من الصّور التي تدعونا الى التّفكير في ثورة تونسيّة غير مكتملة… ولكن هل استطاعت هذه الصّور أن تحمل جماليّة فنية وإبداعية بإمكانها أن تثبّت هويّة ظافر العابدين المخرج؟

منذ أن انطلقت العروض الأولى لفيلم “غدوة” في تونس، أحدث الفيلم ضجةً وجدلاً واسعاً بين المشاهدين. وليس غريباً أن يجذب “غدوة” انتباه الجمهور التونسي الذي يكنّ محبّةً وتقديراً لمخرجه النجم ظافر العابدين، في أولى تجاربه الإخراجية. بل كان متوقعاً أن تختلف طريقة التلقي في تونس عنها في مصر أو في السعودية، حيث شارك في مهرجاناتها ضمن عروضه الأولى.

كثيرون عبّروا عن إعجابهم بالفيلم، بينما أبدى آخرون ملاحظاتهم على وسائل التواصل، في حين اكتفى بعضهم الآخر بإعطاء انطباعاته وراء الكواليس. ولكن قبل طرح هذه الآراء، سنحاول الوقوف عند بعض النقاط التي تميّز بها هذا العمل السينمائي، وكذلك عند بعض ثغراته.

بين الشخص والشخصية

يطرح الفيلم التأثيرات النفسية للتعذيب والظلم والسجن السّياسي على شخصية  المحامي سي الحبيب. هذه الشّخصية التي حمّلت نفسها مسؤولية الدفاع عن ضحايا نظام بن علي والدفاع عن نفسه أيضاً كمواطن تونسي سُجن في فترة النظام البائد. ورغم تراجع الأغلبيّة عن القضيّة الثّورية، ظلّ سي الحبيب مؤمناً بإمكان تحقيق العدالة الإنتقالية والدّيمقراطية.

يسلّط الفيلم الضوء على الجانب النّفسي للشخصيات أو ضحايا النّظام البائد، وهو يستمدّ تميّزه من التّخصص والتدقيق في استبطان ما يدور داخل الشخصية، صراعاتها وأيضاً أسرار عزلتها وكيفية ترجمتها للوجع بعيداً من الوجع الجسدي. وهذه نُقطة تُحسب لظافر العابدين ككاتب السّيناريو.

يحيلنا الفيلم على مرحلة تاريخية محددة، وهي فترة الجدال بين التّونسيين بعد الدعوة إلى المصالحة. فعلت أصوات تطالب بالمصالحة مع المتورطين في تدمير البلاد من رجال أعمال فاسدين بتعلّة الإستفادة من إستثماراتهم. وعلت أصوات أخرى تطالب بالمحاسبة أوّلاً قبل المصالحة وآنطقلت آنذاك حملات “منسامحش”.

يتحرّك سي الحبيب وهو يحمل صدى أصوات التونسيين ينادون: عدالة ديموقراطية. وقد بدا واضحاً جدّاً من مجريات العمل، انتصار العابدين لقضية ثورية من خلال شخصية سي الحبيب، الذي نُتابعه فيما نشعر بشيء من الانسجام أو الأصحّ التماهي بين ظافر/ الشخص وسي الحبيب/ الشخصية. والمعروف أنّ ظافر أيضاً تونسيّ عاش جزءاً من عمره في ظلّ النظام السابق ويعي على الأقلّ مسار وسيرورة الإستبداد في تونس.

رمزيّة العنوان

“غدوة”، الكلمة من الدّارجة التونسيّة تعني طبعاً غداً. والحديث عن الغد هو حديث عن المستقبل قد يكون قريباً أو بعيداً من خلال معنى الكلمة باللّهجة التّونسية. يضعنا كاتب السيناريو منذ البداية في حالة إنتظار. ماذا ننتظر؟ أو ماذا علينا أن ننتظر حسب تصور الكاتب والمخرج؟ هل هو “الغد” الذي انتظره كل التّونسيين، “غد” العدالة الانتقالية والكرامة؟ أم هو “غد” بطل الفيلم؟ أم هو “غد” المخرج الذي ينتظر نجاح أوّل تجربة له في الإخراج السّنمائي؟ أم هو “غد” متلقٍ يتطلّع دائماً إلى عمل سينمائي يقوله؟ الـ”غدوة” مجال واسع للتّأويل والمعاني. إنّه المستقبل، المجهول الذي نترقّبه. فأي غدوة لظافر العابدين؟ لقد ضمن ظافر العابدين الكاتب والمخرج عنصر التّشويق منذ عنوان الفيلم وهو خيار فيه دقّة وبحث تحسب له.

ينتهي الفيلم ونحن لا ندري بعد ما الـ”غدوة”؟ ما نهاية هذا المسار النضالي؟ ويمكن القول إنّ نهاية الفيلم نقطة قوّته، ذلك أنّ المخرج أتقن الصورة في أبعادها الحسية والجمالية والفكرية، كما أنّ إيقاع المشهد الأخير السّريع والموجز كثّف المعاني. وهذا عكس مشاهد البداية للفيلم التي أضعفها “الإسراف” في التمطيط المضجر غير الموظّف، رغم أنّ ظافر العابدين يرى ذلك تأكيداً لحالة القلق والخوف والحيرة التي يعيشها البطل هرباً من الآخر الذي يهدّد وجوده والآخر المترجم في السّلطة.

الصّمت الذي تورّط به المخرج ظافر العابدين في بداية الفيلم وورّط به بطله “سي الحبيب”، قد أحدث شيئاً من الخلل في إيقاع الفيلم رغم أنّه في المقابل أكّد إمكانات العابدين الممثّل القادر على ملء الصمت بتمكنّه من الشخصية ومن تفاصيلها الدّقيقة. هكذا شعرنا بوجع سي الحبيب وشعرنا أيضاً بوجع الممثل الذي هو في نهاية الأمر جزء من سي الحبيب المواطن التّونسي.

إبداع ظافر العابدين في تقمص الشخصية يجعلنا نرى الفيلم أحياناً وكأنّه استعراض لقدرة الممثلّ على الأداء خارج الصّندوق الذي حصره فيه المخرجون في الأدوار الرّومانسية. ففيلم “غدوة” نموذج يخدم ظافر العابدين المخرج والكاتب، وإن كانت تجربة الإخراج تحتاج الى مزيد من النضج.

“أنا “النجم المتعالية؟

قد يكون ظافر العابدين سقط -ولو أنّنا لا نعتقد أن في الأمر قصديّة-  في فخّ “أنا” النّجم المتعالية التي قزّمت بقية الممثلين. فشخصية سي الحبيب “تحتل” المشاهد إما من خلال الحضور الكامل بمفردها أو باحتلالها الجزء الأكبر من المشهد، ويكون تركيز الكاميرا مسلّط عليها. ربما هذا يخدم الفيلم أو ربّما السيناريو ولكن قد يبدو يطريقة مبالغ فيها. فحين يكون سي الحبيب في لقاء صدامي مع زوجته، تكون الكاميرا مسلّطة عليه ومتجاهلة للطليقة التي كنّا نود أن نفهم تركيبتها النفسيته وعلاقتها بالحالة النفسيّة المتأزمة لسي الحبيب.

قد نجتهد ونفهم بالمنطق أنّ الزوجة التي تخلت عن زوجها خلال أزمته لا إنسانيّة لها. ولكن في الواقع لم يؤطّر الفيلم هذه الشخصيات، ولم يقدّم أيّ صورة واضحة لها. انتهى الفيلم ولم نكن نعرف سوى علاقة الابن أحمد بوالده. وقد اشتغل ظافر العابدين جيداً على حواره مع أحمد. أما بقية الشخصيات -ورغم التوفيق في اختيار الممثلين- فلم تجد مساحتها لتتحرّر من “سلطويّة” الكاتب والمخرج والبطولة المطلقة وكل هذه الوظائف مختزلة في شخص واحد: ظافر العابدين.

ردود الفعل

حرص ظافر العابدين على أن يكون حاضراً في مختلف الجهات التّونسية التي عرضت الفيلم. وحرص على اتصال القرب مع الجمهور. وهذا الذّكاء الاتصالي يحسب فريق عمله. فما من أحد قادر الآن على الإجابة عن سؤال هل هذه الجماهير الغفيرة هبّت لمشاهدة الفيلم كعمل سينمائي جديد ينضاف الى خزينة السينما التّونسية والتّجارب السّابقة أم فقط هو تعطّش للقاء النجم العربي والبطل “البيروتيّ”؟ ربّما لو أعيد عرض الفيلم في القاعات للمرة الثانية من دون حضور ظافر العابدين، لتمكنا من تقويم الحالة الحقيقية للجماهير التي أقبلت على الفيلم. فهل هي حالة انبهار بالشخص أو بالفيلم؟ كل ما نحتفظ به من الآراء هي صورة ناطقة بهذه المحبّة الكبيرة لبطل “عروس بيروت” في صور لقائه بالجماهير وإصرارهم على “السيلفي” معه.

من النقاط المضيئة آداء الممثل الصاعد أحمد بن رحومة وهو البطل الثاني في الفيلم… وأيضاً الرهيب بحري الرحالي… أما بالنسبة الى البطل الأول ظافر العابدين، فحاول في فيلمه هذا أن يتحرر من نمطية أدواره المحصورة في إطار الممثل الوسيم. فقدّم دورأً مركباً ومختلفاً في فيلم ينتمي إلى فئة “سينما المؤلف”، لكنه ظل مقيداً بتعابير الوجه ذاتها والآداء الصوتي والجسدي كما في بقية أعماله. ولكن تظل الكاريزما العالية أقوى مقومات حضوره ونجاحه ونجوميته، وهي التي صنعت منه “نجم شباك” في كل العالم العربي، وسهلت تسويق الفيلم وترويجه واستدراج فضول الناس.

زر الذهاب إلى الأعلى