بريطانيا.. حِسْبة مختلفة
بقلم: مصطفى أبو لبدة
إرم نيوز –
تسمعُ لمندوبة بريطانيا الدائمة لدى الأمم المتحدة وهي تطالب، يوم الثلاثاء الماضي، بتحويل روسيا إلى محكمة الجنايات الدولية بتهمة جرائم الحرب، أو للمتحدث باسم رئيس الوزراء البريطاني داعياً الى إسقاط نظام فلاديمير بوتين وطرد روسيا من مجلس الأمن الدولي، أو عن مشروع قانون أمام مجلس النواب البريطاني لتجميد أصول الأثرياء الروس ”حلفاء بوتين“..
تشعر(سواء كنت مؤيدًا أو معارضًا) بأن ”المؤسسة البريطانية“ هي التي تتحدث وليس الأحزاب، وأنها هي التي تؤلب العالم وتسبق الولايات المتحدة في إرسال قوات قتالية إلى أوكرانيا، وتزاود على الاتحاد الأوروبي (بعد أن انسحبت منه) في التصعيد والمقاطعة.
تشعرُ أن ما بين لندن وموسكو من الغلّ، هو أكبر وأعمق وأسبق من غزو الروس لأوكرانيا، كونه يستحضر تاريخاً موصولاً من العداء قادت فيه بريطانيا العالم الغربي في دورات من الحروب الساخنة والباردة ضد الإمبراطورية الروسية..
والآن يتولى حرب الرّهاب الروسي (روسيا فوبيا) التي تجمع الخوف مع التحيّز والكراهية، وتشي بأن المؤسسة البريطانية جهّزت وتنتظر فرصتها التي جاءت في وحْلِ أوكرانيا وقد غرّز فيه الحذاء الروسي.
على مدى القرنين الماضيين تعاقب الاشتباك الإمبراطوري بين بريطانيا وروسيا، ما بين تحالف في مواجهة نابليون فرنسا في أوائل القرن التاسع عشر، إلى الحرب في القرم، إلى اللعبة الأممية للسيطرة على آسيا الوسطى بنهاية القرن، وهي التي عُرفت باسم المسألة الشرقية.
وفي الحربين العالميتين الأولى والثانية، تحالفت لندن وموسكو لتعقبها حرب باردة طويلة انتهت بتفكيك الإمبراطورية السوفيتية..
حتى إذا استعاد بوتين تلك الأحلام الامبراطورية في غزوه لأوكرانيا، مهدّداً بالنووي، لم تستطع المؤسسة البريطانية أن تخفي غلّا مبطّنا بالزهو وهي تقرأ من كتاب التاريخ أن الفرصة ربما حانت الآن لقيادة معسكر الأنجلوسكسون في حرب صليبية على السلاف الأرثوذكس.
ومَن يدقق في تفاصيل حملة ”الروسيا فوبيا“ التي جرى تحريكها خلال الأسابيع الخمسة الماضية بتشكيلة من الصور النمطية السلبية عن الروس وروسيا، سيلحظ كيف أن الغلّ العميق الذي يدفع المؤسسة البريطانية ضد روسيا يُفقدها بعض المتعاطفين الكُثُر الذي يرفضون مبدأ الغزو، فضلاً عن استنكار الأكلاف الإنسانية التي تُهدَر وتستباح في مثل هذه الأحلام الإمبراطورية المستعادة.
بين الصحفيين الاستقصائيين الإنجليز ممن أخذوا على المؤسسة أو الدولة العميقة في بريطانيا أنها في شيطنتها لبوتين (حتى لو كانت صحيحة) فإنها هي نفسها كانت عَرّابه في الوصول للحكم، وعضيده في حربه على الشيشان، وهي الحرب التي لا تختلف في عدم مشروعيتها عن حرب أوكرانيا.. اعتبَروا هذه المفارقة التي لا أحد يستذكرها الآن بأنها مِنْ مُشتقات الذي يخيف الحلفاء قبل الأعداء في معركة أوكرانيا التي يصعب التكهن بنهاياتها.
موقع ”دي كلاسيفايد“ نشر قبل أسبوعين قصة التحالف الاستثنائي الذي كان رئيس الوزراء البريطاني توني بلير عقده مع بوتين، عندما كان رئيساً للوزراء عام 1999، وأيّده فيه باجتياح الشيشان.. أظهر أن ما فعله الروس في معركة غروزني عام 2000 يكاد يتطابق في البشاعة مع ما حصل في دمار ماريوبول الأوكرانية، ومع ذلك لا أحد يريد أن يضع الأمور في نصابها الحقيقي الذي تفكر فيه بريطانيا وتتصرف.
يستذكر التحقيق الاستقصائي كيف أن بلير زار مدينة سانت بترسبرغ ليدعم بوتين في الانتخابات التي أوصلته للرئاسة، ثم دعمه بالأسلحة البريطانية التي استُخدمت في حرب الشيشان، وربما بعضها في حرب أوكرانيا. وكشف عن أن بلير كان في ذلك مندوباً عن ثلاثي المخابرات وشركة بريتش بتروليوم وشركات الأسلحة، وقد تُوّج هذا التحالف بدعوة من الملكة إلى بوتين وكانت أول زيارة خارجية له بعد فوزه، وأول زيارة دولة لرئيس روسي إلى بريطانيا منذ عام 1874.
ليس تبرئة لهذا أو تجريماً لذاك، بقدر ما هو محاولة لقراءة الدور الذي أعطته بريطانيا لنفسها في حرب أوكرانيا، لتكون رابعَ ثلاثةٍ لهم تواريخ طويلة في هزيمتها (روسيا وأمريكا والاتحاد الأوروبي)، وها هي الآن تستحثّهم لمعركة من النوع الذي سيستنزفهم أيّاً كان المنتصر أو الخاسر في النهاية.
رغم ما يصفُ فيه المفكرون البريطانيون حكوماتهم بأنها مختلّة وظيفيا Dysfunctional ، إلا أن الدولة العميقة هناك ما زالت تعيش الإحساس والقناعة بأن النظام الرأسمالي بدأ في بريطانيا ومنها انتقل الى الدول الغربية.
وعندما اعتمد مجلس الشيوخ الأمريكي في مرحلة تأسيس الدولة، اللغة الإنجليزية بديلاً عن الألمانية، نشأت علاقة خاصة بين لندن وواشنطن هويتها إنجليزية ومن أدواتها رؤساء ومتنفّذون أمريكان مِنْ إثنيّة بريطانية كانوا يشاركون لندن كراهيتها للشيوعية أيام الحرب الباردة، ويشاركونها الآن الترويج المبرمج للروسيا فوبيا.
الموقع الذي وضعت فيه بريطانيا نفسها فيه، رأس حربة في تأجيج المواجهة بين روسيا ودول حلف الأطلسي، يجعل معركة أوكرانيا نموذجاً غير مسبوق في الجغرافيا السياسية التي يختلط فيها الرعب مع التنكيت.
يوم أمس فرضتْ الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ومجموعة الدول السبع، عقوباتٍ على روسيا شملت ابنتي الرئيس بوتين، ماريا وكاترينا، بدعوى أن والدهما ربما يخفي أُصوله المالية الضخمة لديهما: نُكتة مرعبة؟!!