بماذا خدمت مواقع التواصل الاجتماعي؟
بقلم: رلى السماعين
النشرة الدولية –
يتفق معي كثيرون بأن الثورة التكنولوجية الحديثة ألقت علينا وهقاً، وفرضت علينا أن نعيش في عالم افتراضي تأثيره مباشر وكبير على حياتنا اليومية من كافة النواحي. وبات الآن من الواضح أن هذه المنصات أصبحت تميل نحو التحكم في الأفراد والمجتمعات، بهدف تغيير النمط الفكري، ومن أجل التحكم بالعقل والسلوكات والانفعالات كهدف أساسي غير معلن، وأما في ظاهرها، فهي منصات قرَّبت الناس من بعضهم بعضاً، وعززت على التواصل الاجتماعي والترفيهي.
ثم نتساءل: لماذا في وقت التقارب التكنولوجي عمَّت الفوضى المجتمعية، وزاد الغضب وانتشر الخوف الذي يولِّد السخط ويعزز الكراهية؟
لذا، باتت المعرفة بحقيقة العالم الرقمي الافتراضي ضرورية، لأن الجهل عبء على المجتمعات كلها.
كان أول انتشار للمواقع الافتراضية وبشهرة كبيرة في بداية الألفية الثانية، عندما أُطلقت أول منصة افتراضية للعموم عام 1997، أما شهرتها فكانت عام 2000 حينما انتشرت المنصات الافتراضية مثلا لفيسبوك والواتساب واليوتيوب بشكل واسع حول العالم، حيث يقدر نسبة مستخدمي الإنترنت عالمياً بـ 3.5 بليون مستخدم لعام 2021 آخذين بعين الاعتبار أن عدد سكان الأرض هو 7.7 بليون شخص، وذلك بحسب موقع عالمنا في البيانات.
إذا أجرينا دراسة تاريخية وسياسية سريعة منذ بداية الألفية الثانية،وهي الفترة التي بدأت فيها هذه المواقع بالانتشار السريع والكبير، نجد أنها خدمت سياسات هدامة هدفها التفرقة والزعزعة ونبذ الآخر والشرذمة، أكثر مما يحمل اسمها من التقارب الاجتماعي، وذلك من خلال أذرعها (منصّاتها) المتعددة، حيث بذكاء مطلق خصصت كل منصة من المنصات الافتراضية لتستهدف فئة عمرية محددة.
فالفيسبوك مثلاً، بعد أكثر من اثنتي عشرة سنة من توفره كمنصة اجتماعية، يُعرف الآن بأنه منصة «كبار العمر» أي الفئة العمرية من 30 سنة وما فوق، لذلك له خصوصية معينة في التحكم. أما منصة توتير فتعرف بأنها المنصة السياسية، أي تلك التي يرغبها القادة وأصحاب القرار والمؤثرون اجتماعياً وسياسياً كونها تستوجب إيصال الرسالة والمعلومة القصيرة الذكية بوضوح وصراحة وسرعة بأقل الكلمات (140-280 حرفا في التغريدة الواحدة). وأما انستجرام وسناب شات فهي منصات تجمع كافة الفئات العمرية كوسيلة ذكية لتجميع صور المشترك عن حياته الخاصة قبل العملية، وفي كل الحالات، وفي كل الأماكن التي يرتادها المشترك، فبتنا نعيش مع المشتركين في أفراحهم ورحلاتهم وعزاءاتهم، وبتنا نتنقل معهم في البيت، وندخل خصوصية غرف النوم،ونرى الغالبية في كل أنواع الحالات حتى في ملابس النوم. والغالبية تتراكض لعرض صور عائلاتها من دون حدود أو احترام لخصوصية نفسها أو عائلاتهم، وكأنه سباق لعرض الذات الفارغة التي باتت الصورة النمطية للإنسان المعاصر.
وأما التطبيق الأخطر برأيي الشخصي في هذه المرحلة – كوننا لا نعلم أية أنواع من التطبيقات التي سنشهدها قريباً- فهي التيك توك، التطبيق الصيني، الذي يعتمد على الفيديوهات أو مقاطع مصورة قصيرة غالبيتها تعتمد على الإثارة الجنسية، الأمر الذي دفع عدة دول حول العالم لمنع استخدامه منها الهند وباكستان، وذلك لتأثيره المباشر السيئ على الفئة العمرية التي يستهدفها هذا التطبيق، وهي فئة الأطفال من عمر خمس سنوات إلى أربع عشرة سنة. بالأساس، هو منصة افتراضية يستهدف الأعمار الصغيرة وبالذات عمر المراهقة التي فيها تتكون شخصية الطفل، وأي تأثير في هذه المرحلة العمرية يترك أثراً كبيراً آنياً ومستقبلياً على المتلقي من صغار العمر. أما كبار العمر من المشتركين من الفنانين والمشاهير فقد فَقَد الكثير منهم هيبتهم كونهم يقلدون أصواتاً وحركات «سخيفة» وأحياناً «مضحكة» قليلاً، فباتوا يوجدون في كل مكان ويعملون حركات لا تليق بعمرهم وتكشف عن مراهقة متأخرة، فهم خسروا من كرامتهم فقط لهدف البقاء أمام عيون متابعيهم والتوسع في الانتشار حسب تقديرهم.
فما هو تأثير المنصات الافتراضية المباشر على الفرد؟
بحسب إحصائية نُشرت في صحيفة الجوردن تايمز اليومية فإن عدد مستخدمي المواقع الافتراضية في الأردن زادت بنسبة 11% سنة 2021 وبأن عدد مستخدمي المواقع أصبح 6.3 مليون.
وبحسب التقرير الذي نشرته صحيفة الغد الأردنية لعام 2021 عن مؤسسة «Hootsuite» يصف حالة الإنترنت حول العالم خلال شهر نوفمبر التي بدورها كشفت أن (عدد مستخدمي شبكات التواصل والتراسل الاجتماعي المختلفة في جميع أرجاء العالم قد ارتفع ليسجل خلال شهر (نوفمبر) قرابة 4.6 مليار مستخدم نشط ).
فإذا بات هذا أسلوب حياة ومسلك غالبية سكان العالم، ألا يفرض معه نوعاً من العبودية؟ مجرد تساؤل.
قال جلالة الملك عبد الله الثاني، في الكلمة الرئيسية التي ألقاها في سنغافورة في المؤتمرالدولي «مجتمعات متماسكة» عام 2019، بأن «الإنترنت مِلْك مستخدميه» وبذلك اعتراف بحرية الفرد في استخدام التكنولوجيا وفي حريته في الاختيار، مع أهمية أن يدرك الشخص أن لحريته هذه ضوابط تحكمها وأصولاً تحددها، لذا باتت المعرفة ضرورية، إذا لم تكن حتمية، ليعي وليحترم كل فرد في المجتمعات حريته وأبعادها بحيث لا يتعدى على حدود حرية الآخرين.
الحرية المنضبطة المسؤولة هي مبتغى الإنسانية، وهي التي ترفع المجتمع وتدعمه في هذه المرحلة بالذات التي نطمح فيها جميعنا إلى الهدوء والاستقرار، والحفاظ على الوئام المجتمعي الذي نعتز به.
أُطلق على عالمنا اسم: عالم جديد، وفي عالمنا هذا الدعايات المتوفرة بكثرة في إعلام الانترنت تدفعنا لشراء ما لا نحتاجه في الغالب، ويفرض على الناس كيف يقضون أوقاتهم وأسلوب حياتهم. فالتكنولوجيا تحكمت بوقتنا ويومنا وفقدنا السلام الذاتي والشخصي، لذا أصبحت مساحة الاستقلالية المتاحة منوطة بالشخص نفسه ووعيه وإدراكه لإدارة حياته.
وبالمقابل، بتنا بحاجة إلى أكثر من قوة عسكرية لمواجهة التيارات المضادة التي تحارب السلام النفسي قبل المجتمعي، بتنا بحاجة ماسة إلى نضج ووعي الفرد والمجتمعات بكيفية التعامل مع هذه المنصات الافتراضية لمحاربة خطاب الكراهية والتنمّر وخاصة التحرش الإلكتروني،وغيرها من الممارسات التي تستهلك عاطفتنا ووقتنا وحياتنا.
الضائقة التي يعيشها العالم في العالم الرقمي ولَّدت الخوف والتوتر،وأصبح الإنسان سريع الغضب والعطب. وأما خطاب الكراهية بكافة أشكاله، الذي يشتهر به العالم الافتراضي، والذي يعرف بأنه المادة المقروءة أو المسموعة التي تثير الغضب والتعصب تجاه فرد أو مجموعة من الأفراد، فهو خطاب فيه نوع من النزعة الانعزالية والطائفية، وفيه الكثير من تهميش الآخر.
فماذا نفعل؟
الوهم هو الاعتقاد بأن هذه المنصات وُجدت «للتنفيس»، وبأن مستخدم الصفحات له الحرية بالتعبير والكتابة كيفما شاء، طالما أنه يكتب على صفحته الخاصة. وهذا الاعتقاد خاطئ وخطير، كون «الحرية» المنفلتة من عقالها مؤذية للآخر القريب والبعيد، وتؤدي عادةً إلى المساءلة القانونية إذا لم يدرك المستخدم لمنصات الفيسبوك أو تويتر أو انستجرام أو تيك توك أو غيرها من المواقع الافتراضية بأن مع الحرية الفردية تأتي المسؤولية، وبأن هناك قانون الجرائم الإلكترونية لردع من يتعدّى. فالأحداث السياسية العالمية حولنا، إن تنبهنا لها، تكون قد وُجدت لإنذارنا. فالديموقراطية المنشودة هي حرية المجتمعات في حدود الرقي واحترام النظام والقوانين واحترام الآخر، وفيها تكون حرية التعبير عادلة خادمة للجميع، لأنني أستطيع أن أقول كل الكلام ولكن ليس كله يُوافق،وليس كله للنشر كي يُفهم الفكر خطأً، أو أكتب كل الأفكار وليست كلها للبناء، لأن ليس كل ما يُنطق به هو عدل، ولا كل ما يُكتب هو للمصلحة العامة ، لذا جاءت مبادرة اجتماعات العقبة، التي دعت إلى الحوار بين الحكومات والمجتمع المدني وقطاع التكنولوجيا، وتهدف إلى الحوار وللعمل بيد واحدة لحماية مستخدمي الانترنت من الذين يسيئون استخدامها ويلحقون ضرراً بالآخرين.
هناك سؤال يتكرر في ذهني وأنا أكتب أو أشارك أو أتصفح المواقع الافتراضية التي اشترك بها وهو: مَن خلف الشاشة؟ من خلف الشاشة وأنا أتصفح تطبيق الفيسبوك، أو منصة التيك توك، أو يوتيوب وغيرها من المنصات المتداولة المشهورة! تساءلت لأنني أعلم كما غيري أن ما نراه مثلاً على شاشة التلفاز هو منظم وغير عشوائي، لأن خلف الشاشة هناك غرفة كاملة التقنية تدعى غرفة التحكم» فيها المخرج والمعدّ وتقني الصوت والصورة وغيرهم من الفنيين، ومنها يطلب من المذيع أن يسأل الضيف سؤالاً محدداً أو يقاطع الضيف بتعليق معين، أو أن يضحك أو يغضب أو يحزن، وإذا أمكن أن ينزل دمعة أو اثنتين …. فالغرفة تتحكم بكل ما نراه أمامنا على الشاشة دون لفت الانتباه لها، وهذا يعكس ذكاء وحرفية وقوة المحطة الإعلامية أو ضعفها إذا كان التصرف في غير موقعه أو غير لائق. وهكذا.
الخبرة العملية علمتني أن لا آخذ بمسلمات الأمور، وبأن الشك والنقد مطلب حياتي يومي يؤدي إلى أخذ الحيطة والحذر، وبأن الحرية ليست بأن تطلق العنان للتعبير القاسي والألفاظ السامة أو بالخطاب المليء بالكراهية، وبأن المواقع الافتراضية بالرغم من حسناتها هي ليست للتنفيس على الإطلاق!
وكي لا أتهم بالسوداوية وأنا إنسانة أعرف بحبي للإنسانية وجهدي في نشر المحبة والسلام، فكلنا نعلم بأن ما يراه شخص أبيض هناك من يراه أسود، وهكذا سأسرد الإيجابية في وجود المواقع الاقتراضية في حياتنا لأنه في الوقت الذي تستغل المواقع في نشر الكراهية والعنف والشرذمة والتطرف بين أفراد المجتمع الواحد وبين المجتمعات المختلفة بعضها ببعض، فإن الوعي في استخدام هذه المواقع لنشر المعرفة باستغلالها بالطرق الإيجابية ينعكس أيضاً إيجابًا على الفرد وعلى الصالح العام.
هناك قاعدة حياتية احترمها، هي في أساسها اقتصادية وإنما تستحق أن تطبق في حياتنا اليومية. القاعدة قائمة على مبدأ 80/20 بمعنى إذا كان الجيد هو الغالبية (80 %) فهناك دائماً نسبة (20%) تفترض أن نفس الأمر غير مناسب أيضاً. فالانترنت والمواقع الافتراضية خدمت التواصل الاجتماعي، والتعارف والتحابب والتقارب، وهناك التعليم في فترة الوباء الذي استمر عبر الانترنت والصفقات، وانتشار المعلومات وغيرها من الأمور المفيدة التي لا يمكن لأحد إنكارها. وإنما إن أدركنا حقيقة هذه المواقع وسبب توفرها للعموم وبسهولة كبيرة وبأنها خدمت ولا تزال تخدم أعوان الشر واصحاب الاجندات الهدامة الذين أبدعوا في استخداماتها قبل الآخرين، ندرك أن 80/20 هي ليست لصالح العلاقات الإنسانية والبشرية، وبأن علينا توخي الحيطة والحذر وتفعيل الوعي الذاتي بما نشارك، ونعجب، أو نعيد نشره، كي نبقى واعين نحافظ على أنفسنا وخصوصيتنا، فمن خلال أشخاص مدركين وفاهمين وعقلاء يتم استغلال هذه المواقع الافتراضية لمحاربة التطرف ونشر الوعي ومكافحة خطاب الكراهية وانتشار الشائعات، ووضع حد للتنمر واغتيال الشخصيات وغيرها، وبالمقابل علينا العمل على تعزيز الحوار البناء الراقي من خلال التقاء الأفراد عبر المجموعات الافتراضية، ونشر تغريدات وفيديوهات وأقوال تروج لحقوق الإنسان والديموقراطية وتعزِّز المحبة والإخاء والتفاهم.
وفي اعتقادي هناك دور كبير، وجهد جهيد تلعبه شركات الاتصال في هذا الموضع بالذات، فهي المسيطر الأول والأخير على هذه المواقع، وبإمكانها من خلال تصميم خاصية معينة في كافة مواقع وأدوات وسائل التواصل الاجتماعي أن تحدد وتمنع المنشورات التي هدفها البلبلة السياسية والمجتمعية، وتلك التي تفضل النزاع على المحبة والإجماع.
كما أن دورنا الآن أن نبقى أقوياء ولا نرهب أو ننجرف أو نتزعزع، علينا أن نبقى صادقين مع الله ومع أنفسنا ونعكس صدقنا للعالم؛ عالمنا الذي بات شريراً وشرّه انتشر على المواقع الافتراضية، ليصبح أمراً حياتياً عاديّاً، وهذا أمرٌ مؤسف ومخيف، لذا على كل منا أن يكون شخصية واعية بأن نغربل ما نسمعه وما نقرأه.
والأهم أن نصنع الحق في حياتنا، ونتصرف بالحكمة تجاه أنفسنا والآخرين، ونسلك بالتواضع، لأنه بينما تقودنا المعرفة إلى التوازن بالحياة واحترام الإنسان لنفسه قبل الآخر، يجرنا الجهل إلى العنصرية والتميز، ويعزّز الكراهية وبغض الآخر.
*صحافية وكاتبة مختصة في شؤون الحوارات والمصالحة المجتمعية