المسار السري للمفاوضات، والخطة الجديدة لروسيا
بقلم: اكرم كمال سريوي

رئيس تحرير موقع “الثائر” –

النشرة الدولية –

لا شك أن الروس خططوا لحرب خاطفة في أوكرانيا، لكنها فشلت. وهناك مَن أقنع فلاديمير بوتين بأن الأدارات المحلية، خاصة في شرق أوكرانيا، ستُعلن فوراً بعد الغزو انتقالها إلى جانب روسيا، لكن شيئاً من هذا لم يحدث، ودخلت القوات الروسية في حرب، لم تُحقق لها أي نتائج إيجابية حتى الآن، وبعد أكثر من شهر ونصف على بدئها.

المسار العسكري

اندفعت القوات الروسية بسرعة داخل الأراضي الأوكرانية الشاسعة، واصطدمت بمقاومة شرسة وعداء أوكراني لم تكن تتوقّعه من السكان، وتكبّدت القوات الروسية خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد، واضطرت إلى تعديل خطتها بعد أسبوع واحد على الحرب، ورغم أنها وصلت إلى مشارف كييف، لكنها عادت وتراجعت بشكل بدا غامضاً. وعندما قرأ نائب وزير الدفاع الروسي الجنرال الكسندر فومين، تصريحاً عن انسحاب القوات الروسية من كييف وتشيرنهيف وقال: “نظراً لأن كييف بحاجة إلى ظروف طبيعية للعمل على معاهدة سلام”، إنفجرت قنبلة إعلامية داخل روسيا، وباتت كلمة “خيانة” و “خيبة الأمل” الأكثر تداولاً في الشارع الروسي.

فمن وجهة النظر العسكرية، إن أي انسحاب من أراضٍ محتلة، ولو تم تقديمه على أنه مناورة، وإعادة تجميع للقوات، للتركيز على اتجاه آخر، ثم عليك احتلال هذه الأراضي من جديد مرة ثانية، فإن هذا غير صائب، ويشكّل إخفاقاً في تحقيق الأهداف، وفشلاً للخطة المرسومة، وبمعنى أدقّ هو نوع من الهزيمة، ولو المحدودة .

لقد أثبت نموذج مدينة مريوبول، والقتال العنيف داخل أحيائها، وحجم الدمار والخراب والخسائر التي أصابت؛ المدينة، والمدنيين، والقوات المتحاربة فيها، أن الأمر سيكون مرعباً لو تم تطبيقه في؛ خاركوف، وكييف، ودنيبروبتروفسك، وغيرها من مئات المدن والتجمعات السكنية الأوكرانية. والخلاصة أن إرادة المقاومة الأوكرانية لم تنكسر، وتبيّن أنه سيكون من المستحيل على روسيا إدارة الأراضي الأوكرانية المحتلّة، دون اللجوء إلى أقسى عمليات القمع، وارتكاب المجازر بحق السكان.

التفاوض والمسار السري

لأول مرة في الحروب يبدأ التفاوض فوراً، وفي اليوم التالي لاشتعال المعارك.
قدّمت روسيا شروطاً لاستسلام أوكرانيا، وأعلنت أن أهداف العملية هي؛ نزع سلاح أوكرانيا، والقضاء على النازيية فيها، والاعتراف باستقلال دونيتسك ولوغانسك والسيادة الروسية على القرم.

أما بعد مرور شهر على القتال، أصبحت القيادة الروسية مستعدة للقبول بشروط معدّلة، وليس تلك التي تم الإعلان عنها في بداية العملية العسكرية، فبرزت قضايا؛ حياد أوكرانيا، وعضويتها في الاتحاد الأوروبي، وتحرير دونباس، مع تأجيل المفاوضات حول القرم مدة 15 عاماً .

لا شك أن كل العالم سينظر إلى هذه التنازلات على أنها هزيمة لروسيا، خاصة أن العالم والشعب الروسي تحديداً، اعتاد النمط الكلاسيكي للحرب، بحيث تصل القوات إلى الغلبة والنصر، ويتم بعد ذلك توقيع معاهدة استسلام. ويبدو أن هذا ما كان ينتظره الشعب الروسي، وقد أعرب أكثر من مرة عن التفافه حول قيادته في قرار الحرب، وأبدى استعداداً ورغبةً بذلك، مهما كان الثمن، لكن القيادة الروسية على ما يبدو، ليست جاهزة لهذه التضحية، وهي أخطأت في تقدير الوضع الأوكراني، ووقعت في كمين مُحكَم أعدّه لها الغرب .

ظهر انقسام داخل روسيا حول مسار الحرب، فهناك “حزب السلام” و “حزب الحرب” وكلاهما يحاول التأثير على فلاديمير بوتين.

في جولة المفاوضات التي جرت في اسطنبول، ظهر بشكل لافت وجود الملياردير الروسي القريب من الرئيس بوتين رومان ابراموفيتش، ولم يكن عضواً رسمياً في الوفد، لكن مستشار مكتب الرئاسة الأوكرانية ميخائيل بودولياك وعضو الوفد الأوكراني المفاوض، قال عن ابراموفيتش ؛ “إنه وسيط فعّال للغاية”.
ومن المعروف أن الرئيس الأوكراني زيلنسكي طلب من الرئيس الأمريكي جو بايدن، رفع العقوبات عن ابراموفيتش، واستجاب بايدن للطلب.

هناك علاقات متينة بين ابراموفيتش وإيغور كولومويسكي، الملياردير الأوكراني الذي كان حاكماً لمنطقة دنيبرو بيتروفيتسك عام 2014، وعضو مجلس أمناء الجالية اليهودية في أوكرانيا، وكِلاهما يحمل إضافة إلى هويته الأصلية، الجنسية الإسرائيلية. ويبدو أن مسار التفاوض السري، يجري بين هذه الاوليغارشية الأوكرانية والروسية، التي تخشى على مصالحها، وتريد وضع حد للحرب الدائرة بأسرع وقت ممكن.
وقد قدّمت أوكرانيا مقترحات، وافقت فيها على الحياد، شرط أن تضمن أمنها عدة دول، بينها بولندا واميركا والصين. وكذلك وافقت أوكرانيا على تأجيل بت مسألة القرم مدة ١٥ عاماً. وفي المقابل وافقت روسيا على انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي. وسارع رئيس الوفد الروسي المفاوض فلاديمير ميدينسكي إلى الإعلان عن إحراز تقدم في المفاوضات التي جرت في إسطنبول. وكذلك كان هناك إعلان غريب لوزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف الذي قال: “هناك فرص لاتفاق بين روسيا وأوكرانيا، لأن الغرب بدأ يفهم أخطاءه الجسيمة”
من غير الواضح طبعاً كيف رأى لافروف أن الغرب بدأ يفهم أخطاءه الجسيمة!!!! فهل قرأ لافروف ذلك في تصريحات وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل من كييف، حول حسم الحرب في ساحة المعركة، والذي قال: ” نعم تُربح الحروب أو تُخسر في ساحة المعركة”؟؟؟ أم في تصريحات وزير خارجية بريطانيا بوريس جونسون الذي زار كييف، ووعد بتقديم مزيد من الأسلحة والدعم للانتصار في هذه الحرب ؟؟؟
وحدها الناطقة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا قالت : “أن المفاوضات لا تُحرز ثقدّماً ولذلك ستتوقف”. لكن ربما هذا كان تعبيراً عن رأي شخصي لزخاروفا.

لكن رئيسة مجلس الاتحاد الروسي فالنتينا ماتفيينكو، لم تستبعد عقد لقاء بين الرئيسين بوتين وزيلنسكي، فيما صرح نائب رئيس مجلس الدوما للشؤون الدولية، اسار تشابا بسعادة، بأنه يجب إبرام معاهدة سلام في أقرب وقت ممكن، لأن هناك ضحايا.

بعد هذه التصريحات الروسية ذهب سحر الانتصار، وحلت خيبة الأمل في الشارع الروسي، وتم توجيه لوم كبير لرئيس الوفد المفاوض ميدينسكي، وهذا يحمل في طياته انتقاداً للرئيس بوتين، لأن ميدينسكي لا يتصرف من رأسه بل وفقاً للأوامر.

لكن مما لا شك فيه أنه بعد ثبات القوات الأوكرانية والدعم الغربي لها، والخسائر التي لحقت بالقوات الروسية المهاجمة، دخل الوفد الروسي المفاوضات من موقف ضعيف، ولم تبرز فيه استراتيجية القوة، وسعى ميدينسكي لتطبيق طريقة التشجيع مع الوفد الأوكراني، الذي أكّد باستمرار، أنه لن يوافق على التنازل عن الأرض، وقال رئيسه ديفيد أراخاميا : أنه “لا يمكن لأي سلطة أوكرانية أن تتنازل عن الأرض” وهذا يعني ببساطة أنه لن يكون هناك معاهدة سلام، على الأقل قبل رسم حدود ونتائج ملموسة للمعارك على الأرض.

الخطة الروسية الجديدة

بعد أن فشلت القوات الروسية في تحقيق أهدافها التي حددتها وأعلنت عنها في بداية العملية العسكرية، لجأت الآن إلى الخطة البديلة، المُقتصرة على حسم عسكري في الشرق الأوكراني، وتحرير منطقة دونباس، والقضاء على القوات الأوكرانية هناك، المُقدّرة بنحو 50 الف جندي، وترغب القيادة الروسية، بإنجاز ذلك قبل ذكرى عيد النصر على المانيا النازية، في التاسع من أيار المقبل .
وبعد الخسائر التي لحقت بالجانبين الروسي والأوكراني، يسعى كل منهما لزجِّ احتياطه. وطبعاً ما زالت تملك روسيا احتياطاً عسكرياً أكبر مما لدى أوكرانيا، التي رغم تَحَرر قواتها الآن قرب كييف، ما زالت تحتاج إلى دعم غربي قوي، لِرَفد قواتها في الشرق، بما يلزم، لصد الهجوم الروسي، الذي بات وشيكاً.

بعد تحقيق النصر في دونباس، ستسعى روسيا لتقديم عرض جديد للغرب وأوكرانيا، للتوقيع على معاهدة أمنية في أوروبا، بالشروط المعدّلة، واذا لم يتم ذلك، فالبديل عن الاتفاق سيكون حرباً طويلة الأمد، وهي غير مؤاتية لا للغرب ولا لروسيا ولا حتى للصين أو الهند، ولا لأوكرانيا طبعاً.

يحاول جماعة “حزب السلام” إقناع بوتين بأن هزيمة أوكرانيا تنسف أي فرص لاتفاقية سلام، ويبدو أيضاً أن الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وأوكرانيا، لن يقبلوا بالشروط الروسية، حتى تلك المعدّلة، وبالمقابل يضغط الشارع الروسي و “حزب الحرب” لتحقيق نصر ناجز في أوكرانيا.
ورغم أن الرئيس زيلنسكي يُبدي ميلاً للدبلوماسية، وفق تصريحاته الداعمة لحل النزاع بطريقة سلمية، وعبر المفاوضات، لكن لا أحد يتراجع حتى الآن. وبانتظار نتائج معركة الدونباس، ستستمر الحرب والمفاوضات معاً . ويقول أحد الخبراء الروس: أنه ربما على روسيا ان تتفاوض مباشرة مع الولايات المتحدة الأمريكية، القادرة على تحقيق خرق في جدار الأزمة والعقوبات، لأن الاتحاد الاوروبي بات أكثر تشدداً، وعاجزاً عن تقديم الحل. ويضيف المصدر: بل ربما الأجدى التفاوض مباشرة مع آل روتشيلد، الذين جاؤوا إلى شرق أوكرانيا منذ تفكك الاتحاد السوفياتي، وأسسوا أعمالهم في منطقة دنبر والشرق الصناعي لأوكرانيا وهذا أفضل وأجدى من الحديث عبر الوسطاء ابراموفيتش وكومولايسكي.

زر الذهاب إلى الأعلى