النفط+
بقلم: مصطفى أبو لبدة
إرم نيوز –
تُظهرُ جردة الحساب المحايدة للأسابيع الستة التي أعقبت الغزو الروسي لأوكرانيا، تأييداً للقناعة السائدة بين ذوي الاختصاص بأن النفط العربي لعب هذه المرة دوراً غير مسبوق في إدارة المعركة وفرز التحالفات، ليس فقط في سوق الطاقة العالمي الذي يأخذ مساراً قسرياً ممتداً لعقد قادم على الأقل، وإنما أيضاً لصياغة بوصلة استراتيجية جديدة للشرق الأوسط.
موقف الحياد الذي اعتمده النفط العربي الخليجي قبل عشرة أيام من دخول القوات الروسية أوكرانيا، كان قراراً سياسياً من الدرجة الأولى بالخروج من المظلّة الأمريكية، إلى مسافة غير بعيدة لكنها كافيّة لاستقلاليةٍ تُعزّز الرُّشد في ديناميكيات سوق الطاقة العالمي، وتضمن للنفط العربي موقعاً غير مسبوق في ميزان القوى العالمي الجديد كما بات متوقعا بعد انجلاء معركة أوكرانيا، أيّاً كان المنتصر في نهايتها.
القرار السياسي بتحييد النفط العربي جرى إعلانه أواسط فبراير الماضي عندما قالت الولايات المتحدة إن روسيا اتخذت قرارها بغزو أوكرانيا وستنفذه في أي وقت. وأشاعت واشنطن أن الغزو ستترتب عليه عقوبات تطال قطاع الطاقة الروسي، وتقتضي من دول الأوبك زيادة إنتاجها لتعويض النقص الذي سيُحدثه تعطيل صادرات أكبر منتجٍ في العالم.
البيان الأمريكي، يومها، رفع سعر النفط الى أعلى مستوى منذ 7 سنوات ليستهل ما يوصف بأنه دورة جديدة من التدافع العالمي، الذي يأتي من فوق خلل اقتصادي أممي كانت أحدثته جائحة كورونا.
وأمام ما كان وُصف بأنه معضلةٌ صنعها قرارُ المقاطعة الأمريكية العقابية المفروضة على روسيا، فقد أخذ النفط العربي قراره بالوقوف إلى جانب تحالُفٍ تنظيميٍ عمرُه خمس سنوات (أوبك +) وموسكو عضو فيه. رَفضَ النفط العربي توظيف طاقته الإنتاجية لضخ المزيد من النفط الخام لخفض الأسعار، كما أرادت واشنطن.
كان رفضُ النفط العربي طلباتٍ متكررة من البيت الأبيض قراراً سياسياً غير مسبوق منذ صدمة النفط الأولى عام 1973، وموقفاً في أزمة دولية كبرى يُماثل في استقلاليته موقف الهند، حتى لا يقال الصين. ومن هذه المواقف الثلاثة المتمايزة، النفط العربي والهند والصين، تعمّمتْ قناعاتٌ بأن الأزمة الأوكرانية خلخلت فكرة القطب الواحد، وكشفت حجم العطب داخل المعسكر الغربي، وتحتمل المزيد في الشرق الأوسط.
في أوروبا، الكيان الاتحادي الاتحاد الأوروبي مُرتهن أساساً لمصادر الطاقة الروسية على نحو يتعذر على بعض الدول أن تستغني عنه الآن، فيما يحتاج الأمر عشر سنوات تقريباً لتوفير البديل، وهو الذي قد لا يتوفر من دون مشاركة دول النفط العربية ودول شرق المتوسط.
تسييس النفط العربي بأخذه موقفَ الحياد في أكبر حرب بالقارة الأوروبية منذ الحرب العالمية، كشف جوانب من خللٍ متراكم ومسكوتٍ عنه في البنى الاقتصادية والمالية والسياسية الدولية؛ فقد ارتفعت أسعار الطاقة بحوالي 45% منذ بداية السنة، وأصبحت أسعار الخام ممكنة في نطاق بين 80 – 150 دولارا للبرميل من حيث المبدأ، وهو التسعير العادل الذي له ثمنه.
كانت المفارقة أن حياد النفط العربي عطّل فعالية العقوبات الأمريكية التي كانت تراهن على تسريع إفلاس الروس وإجبارهم على وقف الحرب. ارتفع السعر فوق 100 دولار فعوّض عن انخفاض الإنتاج والتصدير الروسي.
أيضاً كشف حياد النفط العربي أن سلاح مخزون الاحتياطي الأمريكي هو ورقة هامشية: ما ستُفرج عنه واشنطن من احتياطي استراتيجي لتبريد الأسعار، قد يُفضي إلى نتائج عكسية بسبب صعوبة تجديد المخزون بالسرعة اللازمة.
وفي سياقات التوتر والارتباك الذي تعيشه دول الاتحاد الأوروبي وهي تضطر للخضوع لمطالب الولايات المتحدة في مقاطعة الغاز الروسي بحُزَم عقوباتٍ متدرجة، اكتشفت ألمانيا أن شركة غاز بروم الروسية تمتلك 20% من سعة تخزين الغاز في البلاد، وهي مسألة أمنية بقدر ما هي خطأ تنظيمي وإداري يثير الشبهة. عالجته ألمانيا بقرار خارج عن المألوف الرأسمالي، هو تأميم شركات الطاقة.
أيضاً.. واحدةٌ من القرارات الرمزية التي شارك فيها النفط العربي قبل أسبوعين تقريباً، واعتُبرت استكمالاً للخروج من تحت المظلة الأمريكية، كان قرار مجموعة ”أوبك +“ بالتوقف عن استخدام بيانات وكالة النفط الدولية؛ بدعوى أنها تُطوّع بيانات أسواق الطاقة عن العرض والطلب في السوق العالمي لصالح الولايات المتحدة. القرار اتُّخذ بالإجماع، فوصف بأنه توسعة مشهودة للحرب الباردة التي يخوضها النفط العربي في ظروف دولية مواتية.
لكن جردة حساب الصدمة النفطية التي أحدثها النفط العربي عندما عاند واشنطن واختار موقف الحياد في الحرب الباردة الراهنة، ونجح، تبدو ذروتها الإقليمية ببنائها ”منتدى النقب“ خياراً مستقبلياً للشرق الأوسط بديلاً عن الخيارات الأمريكية.
ففي ذروة الحرب الأوكرانية وما تتضمنه من استقطاب وتبعيات معظمها بالإكراه، انعقد قبل نهاية الشهر الماضي مؤتمر سداسي في النقب حضرته 4 دول عربية وإسرائيل، وشارك فيه وزير الخارجية الأمريكي الذي تبلغّ بأكثر من لغة أن أهل الشرق الأوسط قرروا الآن أن يرسموا خريطة المنطقة بأنفسهم؛ تحسُّباً لمستجدات النهج الأمريكي في فك الارتباط مع المناطق المستعصية.
كان طبيعياً أن تتفاوت التوصيفات بين اتهام وتأييد لهذا الاختراق غير المسبوق، فهو تغيير نوعي في معطيات الشرق الأوسط أحدثته تغييرات كمّية، كانت الولايات المتحدة اعتمدتها في الشرق الأوسط خلال العقدين الماضيين، واختزلت فيها المنطقة مرّة بتداعيات احتلال العراق، وأخرى بالإسلام السياسي في سنوات ”الربيع العربي“، وراهناً بملف النووي الإيراني.
حيادُ النفط العربي في حرب أوكرانيا ألغى نظام القطب الواحد على المستوى الأممي، وأحرز قوة دولية تُعطي لتعدد الأقطاب مفهوماً جديداً، سيكون محل اختبار في الشرق الأوسط عندما تنتهي مرحلة عض الأصابع الراهنة.