ميقاتي بالعمرة والدولة بالجحيم: القطاع العام يتوقف عن العمل
بقلم: عزة الحاج حسن

النشرة الدولية –

المدن –

في وقت يؤدي فيه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي مناسك العمرة في السعودية، لتطهير نفسه من الذنوب، يُمعن بارتكاب ذنوب ترقى إلى مستوى الكبائر، بحق عشرات الآلاف من الموظفين، المرتبط مصير معيشتهم وعائلاتهم بأدائه واجباته كرئيس للحكومة، واجباته التي يتقاعس عن القيام بها. وكأن القطاع العام في هذا البلد يعمل بقدرة إلهية من دون أي نفقات أو بدلات أو مخصّصات.

قد يكون الرئيس ميقاتي على علم بأن إدارات الدولة ومؤسساتها ومصالحها معطّلة بشكل شبه تام، ومنها من أقفل أبوابه كلّياً، لكنه بالطبع يجهل أن مئات الآلاف من موظفي القطاع العام وعائلاتهم لا يتمنون له قبول عمرته تلك، حتى أن أحد الإداريين علّق على أداء الرئيس ميقاتي مناسك العمرة بالقول “لا تقربوا مكة المكرّمة وأنتم جُناة مجرمون”، في إشارة منه إلى ارتكاب الحكومة اللبنانية جريمة بحق موظفي القطاع العام، الذين باتوا عاجزين عن تأمين خبزهم اليومي، ولم يستحصلوا حتى اللحظة على أي مساعدات اجتماعية من تلك التي أقرتها مؤخراً حكومة ميقاتي.

إدارات مغلقة

يعجز الآلاف من موظفي القطاع العام عن الوصول إلى مراكز عملهم، فرواتبهم ومخصّصاتهم بما فيها بدلات المواصلات لم تعد تغطي تكاليف أسبوع عمل بالحد الأقصى. من هنا بتنا نشهد حالاً من التعطيل التام لبعض الإدارات والمؤسسات والمدارس الرسمية، في حين يعمل القسم الباقي منا بشكل جزئي.

إحدى ثانويات منطقة بعلبك الهرمل، على سبيل المثال، توقفت كلّياً عن إعطاء الدروس وأغلقت أبوابها قسراً، بعد اتخاذ معلّميها، وعددهم 32، قراراً بالتوقف عن الحضور إلى المدرسة لعدم قدرتهم على تأمين تكلفة النقل. وحسب أحد المعلّمين، فالتوقف عن العمل مرده إلى غياب الأمان المعيشي والصحي للطاقم التربوي “فالرواتب باتت بوضع معيب. أصبحت عبارة عن فتات، وليس وضع تعاونية موظفي الدولة بأفضل حال. فالأخيرة أصبحت في الحضيض أيضاً”.

هذا الحال لا يقتصر على ثانوية واحدة، فهناك العديد من المدارس بدأت تشهد نقصاً كبيراً في حضور المعلّمين والمعلمات بسبب عجزهم عن الوصول إلى مراكز عملهم. حتى أن كثراً منهم تقدّموا بطلبات نقل من مكان عمل إلى آخر أقرب جغرافياً إلى مكان السكن. فكيف يمكن لمعلمة الإنتقال من مدينة بعلبك إلى إحدى القرى المحيطة، يومياً، براتب لا يتجاوز المليون و800 ألف ليرة، في حين تبلغ تكلفة الإنتقال عبر المواصلات ما لا يقل عن 100 ألف ليرة يومياً وسعر صفيحة البنزين يفوق 470 ألف ليرة.

أما إدارات الدولة فتتوقف جميعها منذ أشهر وحتى اليوم عن العمل، طيلة أيام الاسبوع، باستثناء يوم واحد فقط. فموظفو القطاع العام لم يتقاضوا حتى اليوم مساعدات اجتماعية تم إقرارها مؤخراً، على ما تؤكد رئيسة رابطة موظفي القطاع العام نوال نصر في حديث إلى “المدن”. فالمساعدات الاجتماعية لم تصرف حتى اليوم، علماً أن المساعدات مشروطة بحضور الموظف 3 أيام بالحد الأدنى أسبوعياً. وبذلك فقيمة المساعدة -وهي عبارة عن راتب- لا تكفي في كثير من الحالات لتغطية تكاليف انتقال الموظف إلى عمله على مدار 3 إلى 5 أيام شهرياً بالحد الأقصى. فكيف بالموظف أن يلتزم دوام عمله لثلاثة أيام أسبوعياً كشرط للحصول على المساعدة الاجتماعية التي لم تُصرف بعد؟

مؤسسات معطّلة

ولا تقتصر المماطلة والتسويف بحقوق موظفي القطاع العام على المساعدات الاجتماعية فقط. بل تشمل أيضاً بدل النقل الذي أقر بمرسوم ولم يطبق هذا الشهر على كافة إدارات الدولة. كما أنه لم يشمل بالمبدأ أي من المؤسسات العامة، كهيئة إدارة السير والآليات ومؤسسة الكهرباء والضمان الاجتماعي والمياه وغيرها. فهؤلاء أيضاً لم تعد تمكّنهم مداخيلهم من الحضور إلى أماكن عملهم، لاسيما في المناطق خارج بيروت، حيث الانتقال من بلدة إلى أخرى يكلف الموظف صفيحتي بنزين شهرياً بالحد الأدنى، أي ما يفوق نصف راتب. ويعلّق أحد موظفي “النافعة” في مركز زحلة، وهو الآتي من منطقة تبعد نحو 30 كيلومتراً عن مركز عمله، بالقول “لم يعد مجدياً العمل بمؤسسات عامة”. مؤكداً نيّته التقدم باستقالته ريثما يجد عملاً بديلاً في منطقة سكنه.

حال الموظف والأستاذ هو حال كافة الموظفين، أو ربما الغالبية منهم في أحسن الأحوال. فالقطاع العام يحتاج اليوم إلى إعادة هيكلة شاملة أكثر من أي وقت مضى، لا سيما في ظل الإهتراء الحاصل في المؤسسات، والفوضى المستحكمة بإداراتها خصوصاً لجهة غياب عامل المساواة بين الإدارات العامة والمؤسسات العامة والمصالح المستقلة. فمنها من لم يتقاض حتى اليوم سلسلة الرتب والرواتب التي أقرت منذ سنوات. ومنهم أيضاً من لم تشمله زيادة بدلات النقل إلى 64 ألف ليرة يومياً. ولا يزال موظفو المؤسسات العامة يتقاضون 8000 ليرة بدل نقل يومي، في حين أن تعرفة النقل لأقرب مسافة ممكنة باتت تفوق 30 ألف ليرة.

ويستغرب أحد الإداريين في الجامعة اللبنانية جدوى إلزام العاملين في القطاع العام على الحضور إلى أماكن عملهم. فبصرف النظر عن عجز غالبية الموظفين من الحضور، ماذا عن مستلزمات العمل؟ يسأل الإداري، ويقول إن إدارات الدولة بما فيها الجامعة اللبنانية باتت فارغة من مستلزمات العمل، فلا مازوت للمولدات ولا أوراق ولا وصولات ولا حتى محابر. ويكشف عن أن طلاب كلية العلوم بالأمس لم تتوفر لهم الأوراق لإجراء الامتحانات، ما أحدث فوضى لا توصف.

حتى مستخدمي مستشفى رفيق الحريري الحكومة لم تستثنهم الضائقة المعيشية. ويجري الهمس فيما بينهم باحتمال التوجه إلى مقاطعة العمل بسبب عجز كثر منهم عن الحضور إلى المستشفى ما لم يتم تعزيز مداخيلهم. وكان المستخدمون قد توجّهوا منذ أيام إلى إدارة المستشفى ووزارة الوصاية، أي وزارة الصحة، برسالة تطالب بضرورة العمل على إيجاد حلول تضمن استمرارية حضور الموظفين إلى دوامات عملهم في المستشفى.

عجز أم قرار؟

منذ أيام استمع وزير المال يوسف خليل إلى شكاوى وفد من روابط التعليم وأفراد الهيئة التعليمية، لاسيما لجهة حقوقهم ومستحقاتهم المتأخرة، فأكد لهم أن “أجهزة الوزارة تعمل بكل طاقتها لإنجاز الجداول لدفع المساعدة الاجتماعية لمستحقيها في أقرب وقت ممكن، فضلاً عن العمل مع الجهات المعنية لتسهيل قبض الحوافز وتأمين بدلات النقل، حفاظاً على الحقوق وتحقيقاً لانتظام واستمرارية العام الدراسي”. غير أن مصدراً موثوقاً في وزارة المال أكد لـ”المدن” خلاف ذلك، وقال أن التلكؤ في وزارة المال بتحضير جداول موظفي القطاع العام كان متعمّداً، في إشارة منه إلى وجود اتفاق ضمني بين وزارة المال ومصرف لبنان يقضي بتأخير سداد مستحقات القطاع العام، تخفيفاً من ضخ مزيد من السيولة بالليرة اللبنانية في السوق، تجنّباً لدفع سعر صرف الدولار إلى مزيد من الارتفاع. ويلفت المصدر إلى توقف موظفي  وزارة المال كزملائهم في باقي الوزارات عن العمل على مدار الأسبوع، باسستثناء يوم واحد فقط. وهو ما يساهم أيضاً بتأخير إنجاز المعاملات والجداول.

زر الذهاب إلى الأعلى