أوكرانيا بين حل سياسي بعيد وحسم عسكري صعب
بقلم: تاج الدين عبد الحق
رئيس تحرير موقع إرم نيوز –
لا المعارك العسكرية قادرة على الحسم في أوكرانيا حتى الآن، ولا العقوبات الاقتصادية الغربية كافية لإجبار روسيا على التراجع، حتى لا نقول الرضوخ.
المشهد الميداني يشير إلى أن روسيا لم تعد في وارد احتلال كييف أو السيطرة عليها، وأنها تركز عملياتها في دونباس الشرقية التي كانت ربما السبب الخفي لاندلاع الأزمة من الأساس وهدفها عندما بدأت العمليات.
وحسب التقارير الواردة عن تحركات القوات الروسية في أوكرانيا، فإن موسكو تعيد رسم نطاق عملياتها، فهي لم تعد معنية بالبقاء في المناطق المحيطة بالعاصمة الأوكرانية كييف، وغيرها من المدن في الغرب، وسط مؤشرات على أن القوات الروسية أعادت نشر قواتها بحيث أخذ التركيز العسكري الروسي على المناطق الشرقية، استعدادا لوجود دائم أو طويل هناك .
ويبدو أن روسيا تحاول من خلال سحب قواتها وإعادة نشرها، ضرب أكثر من عصفور في وقت واحد. فهي تهدف بالدرجة الأولى إلى تقليل الكلفة السياسية لعملياتها العسكرية ومحاولة احتواء الحملة الإعلامية الغربية، التي أثارتها صور القتل، والدمار الذي لحق بالمناطق والمدن الأوكرانية التي وصلت إليها القوات الروسية في الغرب، وكذلك صور قوافل اللاجئين الذين فروا من مناطق القتال والتي كان لها أثر كبير في تأليب الرأي العام الغربي على روسيا، إلى حد تزايد القبول الشعبي لمقاطعة إمدادات الغاز الروسي، رغم التبعات الاقتصادية لذلك، أملا في الوصول إلى إجبار روسيا على سحب قواتها وإنهاء غزوها لأوكرانيا .
أما الهدف الثاني الذي سعت له موسكو من خلال سحب قواتها إلى المناطق الشرقية في أوكرانيا فهو خلق التفاف وطني داخلي داعم لعمليات الجيش الروسي. فالتدخل الروسي في شرق أوكرانيا يكاد يكون تدخلا مبررا ومشروعا لدى شرائح واسعة من الشعب الروسي، وهم في معظمهم يتفهمون ضروراته الوطنية والقومية، ومقتنعون بأسبابه، ومستعدون لدفع الثمن اللازم لتحقيق أهدافه .
لكن توسيع القتال ليشمل المناطق البعيدة غير المتاخمة لروسيا، والعمل على إسقاط حكم الرئيس الأوكراني زيلنسكي، وإجباره على الرضوخ سياسيا لمطالب موسكو ، والاستفزاز الصارخ للغرب، هو من باب لزوم ما لا يلزم، وقد يصبح نوعا من الاستنزاف السياسي والاقتصادي لروسيا، خاصة إذا طال أمد الحرب واتسع نطاقها وتعقدت خيوطها المحلية والدولية.
تركيز موسكو على المناطق الشرقية المتاخمة للحدود الروسية له بعدان: الأول عسكري، لجعل الوجود العسكري الميداني للقوات الروسية، أكثر أمنا وأشد فاعلية .
فالقوات الروسية بتموضعها الجديد في الشرق تقاتل في مناطق ريفية مكشوفة، وهو ما يتيح لها التحرك بمرونة أفضل، بالاضافة إلى أن خطوط إمدادها ستكون أكثر سهولة وأمنا، فضلا عن أن في هذه المناطق وجود شعبي داعم للقوات الروسية، يتمثل في النسبة الكبيرة من الأوكرانيين من أصول روسية، والذين يطالبون، إما بالانضمام إلى روسيا، وإما إعلان الاستقلال عن أوكرانيا .
أما النتيجة العسكرية الثانية، للتركيز الروسي على المناطق الحدودية بينها وبين أوكرانيا، فتتمثل في أن الوجود الروسي في المناطق الشرقية، سيكمل قوس السيطرة على شبة جزيرة القرم، ويعزز الوجود الإستراتيجي للقوات الروسية في البحر الأسود، وهو أيضا من الأهداف التي يتفهمها الشعب الروسي ويلتف حولها، ويضحي من أجلها ويدفع ثمن أي عقوبات تفرض عليه بسببها.
بهذا المعنى فإن انحسار المدى الميداني للعملية العسكرية الروسية، قد يمهد أيضا الطريق للبحث عن مخرج سياسي يوفر لروسيا ضمانات سياسية وجغرافية لأمنها الوطني؛ بما في ذلك مسألة حياد أوكرانيا، دون أن يعني هذا الحياد نوعا من الهيمنة الروسية، ودون أن يصبح هذا الحياد مدخلا للوصاية الغربية وممرا لرعاية من حلف الناتو.
أما البعد الثاني لإعادة تموضع القوات الروسية في المناطق الشرقية، فهو بعد اقتصادي يتمثل بالاستعداد لمواجهة طويلة مع العقوبات الغربية والتي تحتاج معها موسكو لحشد التفاف داخلي واسع، وتفاهمات إقليمية ودولية. فأي موقف سياسي وعسكري لا تستطيع موسكو تبريره للداخل الروسي، او للمجتمع الدولي سيكون عبئا إضافيا، يفاقم من وطأة العقوبات ويزيد من حدتها.
تراجع القوات الروسية لمناطق الشرق الأوكراني قد يكون مرحلة جديدة في المواجهة مع حلف الناتو ومع الدول الغربية، فهو قد يُخرج موسكو من مرمى الإدانة، ويفتح الباب أمام حلحلة الخلافات بشكل لا يكون فيه غالب منتصر، ولا مغلوب مندحر .