بوتين يدخل على خط القدس
بقلم: مصطفى أبو لبدة

إرم نيوز –

آخر ما كان متوقعا لقضية المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، أن يجري تشبيكها بأثواب الحرب الأممية غير الباردة في أوكرانيا، وهو ما فعله الرئيس الروسيk يوم الأحد الماضي..

ففي مزيج من التقريع والتهديد والنكاية، ردا على الموقف الإسرائيلي الذي دعم قرار تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان الأسبوع الماضي، سلّم مبعوث موسكو رسالة من الرئيس فلاديمير بوتين الى رئيس الوزراء الإسرائيلي يطلب فيها تسليم الروس ”فورا“ كنيسة تقع في المجمّع المسكوبي بجوار كنيسة القيامة، وذلك تنفيذا لوعد حكومي، ولقرار قضائي كان جرى تعطيله.

أنْ يجد الرئيس الروسي المنشغل حتى رقبته بالحرب في أوكرانيا، وقتا فائضا لتهديد اسرائيل بشأن قضية كان يمكن تأجيل الحديث فيها، هو تصرف مشحون بالإشارات المكتوبة على الحائط.

فقد تصادف أن الرسالة التي وُصفتْ بالباردة الحادة، وصلت للحكومة الإسرائيلية المهددة بالانفراط، بعد يومين من اقتحام قواتها الأمنية، ولأول مرة منذ 1967، الجامع القبلي في المسجد الأقصى، واعتدت على المصلين معتكفي رمضان، محدثة في هذا التصرف تغييرا نوعيا على مبدأ أو عقد ”الحفاظ على الوضع الراهن – الستاتيكو“، يوحي هذه المرة بأن له ما بعده.

قبل وصول الرسالة الخطية، كانت موسكو وصفت إسرائيل بأنها تمارس ”أطول احتلال في تاريخ العالم“، وهو تعبير حمّال للإيحاءات بشأن القدس الشرقية بقدر مما يطال الجولان السوري المحتل.

لكن القُطبة الخفية في الذي فعله الرئيس بوتين بهذه الحركة الموثقة، تتمثل في كونه استحضر الكنيسة الروسية، أكبر كنيسة أرثوذكسية شرقية، وجعلها شريكا نشطا للفلسطينيين (وللعرب والمسلمين) في قضية إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، أو على الأقل في منعها من تغيير الأمر الواقع للمقدسات المسيحية والإسلامية.

لكن هذه الشراكة للكنيسة الروسية في حماية الأماكن المقدسة بالقدس، وبالتوقيت والطريقة التي اختارها الرئيس بوتين، ليست بدون ثمن.

واحدة من أحاجي الحرب في أوكرانيا والتي تثير الريبة من زاوية أن هناك تواطؤا على إغفالها، هي الدور الذي نهضت به الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في تبرير الغزو والمشاركة فيه، وذلك في المقابل الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية التي انشقت عن الأم الموسكوبية، ولقيت في انفصالها دعما واحتشادا من معظم الكنائس الأمريكية والكندية والأوروبية، وصولا إلى أرثوذكسيات القسطنطينية (إسطنبول)، والإسكندرية، وسائر إفريقيا، وبطريركية القدس لطائفة اللاتين.

مثلُ هذه الخريطة الشائكة لصراع الكنائس العالمية إذ يجري في الظل بموازاة الاستقطاب السياسي الأممي بشأن أوكرانيا، هو بالتأكيد مسألة استثنائية عندما يُدخلها بوتين طرفا في موضوع حماية المقدسات بالقدس.

استذكار بعض المشاهد ذات الصلة قد يسعف في قراءة ما يمكن أن تتواصل به أو تنتهي إليه قضية القدس ومقدساتها، وهي تُعرض الآن على مجلس الأمن الدولي بأجندة فلسطينية كان ملفتا أنها تضع في مقدمة أولوياتها طلب الحماية الدولية.

قبل شهر تقريبا، وتحديدا في 22 مارس الماضي، حصلت حادثة غير مسبوقة في القدس أمام المجمع المسكوبي للكنيسة الأرثوذكسية الروسية؛ إذ احتشد زعماء دينيون من الأديان الثلاثة، ومعهم دروز، وكلّهم بأزيائهم التراثية، ولم يُعرف في حينه مَن الذي استدعاهم..

هناك صلّوا من أجل السلام في أوكرانيا، ورفعوا إلى بطريرك موسكو، كيريل، رسالة تناشده استخدام نفوذه لدى الكرملين لإنهاء ما وصفوه بأنه حرب رهيبة غير مفهومة أو مبررة.

هذا المشهد من القدس يستحضر آخر سبقه كان فيه بطريرك موسكو كيريل عرّابا دينيا ومحلّلا لقرار بوتين في اجتياح أوكرانيا.

فقد برر بوتين الغزو بأنه لوقف تقدم حلف الناتو نحو حدود روسيا، وعززه البطرك كيريل بوصف العملية بأنها حرب دينية على الذين يحتفون بالمثلية الجنسية ويخرجون لها بمسيرات فخر.

وكان كيريل وصف بوتين بأنه ”هدية من الرب“، أو ”معجزة من الله“. أيّده في التدخل العسكري بسوريا، وفي ضم شبه جزيرة القرم، العام 2014، ثم في معركة أوكرانيا الحالية.

بطرك الكنيسة الروسية في تأييده اجتياح بوتين لأوكرانيا لم يُخْفِ أنه ينتقم من انشقاق الكنيسة الأوكرانية عن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية الأم في العام 2018، وذلك مشهد أساسي تتجلى تعقيداته في أنه انعقد ليس في كييف وإنما في تركيا داخل كاتدرائية آيا صوفيا بإسطنبول.

يومها، وبحضور الرئيس الأوكراني جرى الإعلان عن شق الكنيسة الروسية وتأسيس كنيسة أرثوذكسية خاصة بأوكرانيا، مغيّرين بذلك ستاتيكو عمره عدة قرون.

ولم يكن سرا (إلا بمقدار ما جرى حجبه عن الإعلام) أن قرار بطريرك القسطنطينية (إسطنبول التركية) شقّ الكنيسة الأرثوذكسية الروسية جاء متبوعا بتلحيق الولاية على كنيسة أوكرانيا إلى السلطات الدينية لرؤساء أساقفة الولايات المتحدة وكندا.

أين يبدأ التاريخ؟ وأين تدخل الهوية الوطنية؟ وأين تتجلى التوظيفات السياسية للدين في كل ذلك؟

بعض الإجابة تأتي من قرارات فرعية لاحقة، كالذي فعلته تركيا الأسبوع الماضي عندما قررت إغلاق مضيق البوسفور ومنع السفن العسكرية من الوصول إلى مدينة أوديسا الأوكرانية على البحر الأسود.

على خلفية مِثل هذه المشاهد التي تجترح المفاجآت السياسية، وتغيّر الأمر الواقع ”الستاتيكو“ تحت شعار إعادة ترتيب الاشياء امتثالا لأوامر الرب، جاءت رسالة بوتين، يوم الأحد الماضي، لرئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينت، وفيها يطلب التنفيذ الفوري لتتبيع مُجمع كنيسة ألكسندر نيفسكلي لولاية موسكو، وهي الكنيسة التي تكاد تعتبر جزءا تابعا لكنيسة القيامة، وتمنح مالكها شرعية أن يكون ضمن رعاة الأماكن المقدسة للديانات الثلاث.

توقيت رسالة الرئيس الروسي في ذروة معركة الأقصى الفلسطينية، أحدثت بالتأكيد خلطا في أوراق قضية الحماية والولاية على مقدسات الأديان الإبراهيمية الثلاث: الأقصى، كنيسة القيامة، وساحة البراق أو حائط المبكى.

فبعد موت حلّ الدولتين، تحوّل ملف القدس المحتلة، عمليا، إلى قضية حماية ورعاية الأماكن المقدسة، وهي القضية الأساس في كل الذي حصل خلال رمضان عندما التقت مناسبات احتفال الأديان الثلاث، وأعادت التذكير بأن الولاية الإسرائيلية على مقدسات الأديان الأخرى مسألة ستظل تنز بالصدام المتجدد إلى يوم القيامة، ما دام لم يتوفر حل يحظى بالإجماع الأممي.

يوم الثلاثاء الماضي، انعقدت جلسة أولى جديدة لمجلس الأمن الدولي بشأن القدس والمقدسات باعتبارهما قضيتين وليس قضية واحدة..

المندوب الفلسطيني توسع في الحديث عن ضرورة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، الذي كانت موسكو وصفته قبل أيام بأنه ما عاد استمراره مقبولا ومحمولا.

ولأن إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للقدس الشرقية في فترة ولاية الرئيسي الأمريكي جو بايدن، يعرف الجميع أنه غير وارد، فقد قرأ الكثيرون في الطلب الفلسطيني ”حماية دولية للقدس“ صيغة لفظية مخفّفة بالعودة إلى مشروع ”الوصاية الدولية على المقدسات“، وهو مستجد كبير شارك فيه بوتين، يوم الأحد الماضي، وبما يسوّغ التكهن بأن تنفيذه ربما أضحى مسألة وقت.

زر الذهاب إلى الأعلى