الصين تدخل المحيط الهادئ؟
بقلم: وليد فارس
بعد انتهاء الحرب الباردة بدأ المجتمع الدولي بفتح المؤسسات الكبرى أمام بكين لتلتحم مع الأسواق العالمية والقانون الدولي
النشرة الدولية –
بينما الأعين تتركز على تحرك روسيا شرق أوكرانيا وجنوبها، حيث تحاول موسكو حسم المعركة لصالحها عبر السيطرة على الساحل ما بين ماريوبول والقرم، والتقدم ميدانياً في الشرق للسيطرة على كامل محافظتي لوغانسك ودونيتسك، بدأ البعض في الغرب عامة، والولايات المتحدة بخاصة، التوقف على تحركات شريكة روسيا، القوة العظمى الثانية في العالم، الصين، بخاصة في منطقة المحيط الهادئ.
بزوغ الصين التدريجي
بعد انتهاء الحرب الباردة، بدأ المجتمع الدولي بفتح المؤسسات الكبرى أمام “الصين الشعبية” لتلتحم مع الأسواق العالمية والقانون الدولي، وبمساعدة إدارة بيل كلينتون، تم قبول بكين في صندوق النقد الدولي وتمتين العلاقة مع البنك الدولي، فبدأت الصين بالتحول إلى دولة تتقن الصناعة النوعية، لكثرة اليد العاملة، والتصدير الواسع، وشراء المحروقات بشكل أكثف، فدخلت خلال عقدين باب التجارة العالمية وسرعان ما أصبحت عضواً في نوادي الدول الاقتصادية الكبرى، وبخاصة “مجموعة العشرين”، ومع صعودها الاقتصادي، الذي تكلل بالتحول إلى دولة تملك ديوناً خارجية هائلة لعشرات الدول بما فيها الولايات المتحدة.
الصعود الاقتصادي للقوة الصينية سمح لها بدخول قارات عدة عبر مساعدات مالية، وعقود اقتصادية، واتفاقيات تجارية، في أفريقيا وأميركا اللاتينية، وآسيا، جاعلاً من بكين قوة اقتصادية تتسابق مع الغرب وأميركا واليابان.
عسكرياً
مع تحول الصين إلى مارد مالي، جددت قوتها العسكرية بشكل جعل منها أيضاً قوة يحسب الغرب لها حساباً، فطورت طائراتها ودباباتها وسفنها وصواريخها وبرامجها السيبيرية، وأنتجت حاملات طائرات وبوارج حديثة، بشكل باتت ربما القوة الحربية الثانية بعد أميركا وقبل روسيا، أما ترسانتها النووية فأصبحت من الطراز الأول، وتأتي بعد روسيا مباشرة، أضف إلى ذلك دخولها الفضاء مع الأقمار الاصطناعية ومهمات فضائية باتجاه القمر.
الأجندة الجيوسياسية
مع تضخم القوة العسكرية للصين، واتساع قدراتها العسكرية، وتزايد السباق بين القوى الكبرى، برزت أجندات جديدة في السنوات الماضية تشير إلى توسع باتجاه منطقة المحيط الهادئ، بالتدرج. الهدف التاريخي للصين الشعبية منذ قيامها في 1949 كان دائماً “باسترجاع تايوان”، الدولة التي استقلت عن الحكومة الشيوعية والتي تعتبرها بكين “انفصالية”، ولكن مع الضمانات الأميركية لتايوان، الحل العسكري معها لم يكن وارداً لعقود، إلا أن القيادة الصينية صوّبت توسعها باتجاه بحر جنوب الصين، الذي يقع في محيط الباسيفيك، حيث بنت جزراً اصطناعية، وعسكرتها، فباتت تطل على الفيليبين، وتقع استراتيجياً على خط المواصلات البحرية بين شرق آسيا وغربها والخليج وأفريقيا، ما أحدث توتراً بحرياً مع الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة، إلا أن الصين استمرت بتحصين هذه القواعد على أبواب الهادئ الشرقية، أما الخطوة الصينية الأخيرة، فأدخلتها إلى عمق المنطقة الباسيفيكية.
جزر “سولومون”
في آخر التطورات، أعلنت الصين ودولة “جزر سولومون” في المحيط الهادئ عن توقيعها اتفاقية تعاون متكاملة، سياسية، اقتصادية، عسكرية، تسمح للصين بوجود أمني استراتيجي في الدولة الصغيرة، ما يعني أولاً أن البحرية الصينية ستكون لها تسهيلات بحرية وقواعد في “جزر سولومون”، أضف إلى ذلك حق إنزال قوات للتدريب، ونصب رادارات، وطبعاً في النهاية نشر صواريخ إذا اضطر الأمر، ما يعني أيضاً أن الخط البحري العسكري بين الجزر والساحل الصيني، سيصبح سالكاً بشكل مستمر أمام البحرية الصينية.
على صعيد التوازن الاستراتيجي، سيشكل ذلك تطوراً دقيقاً بالنسبة للمنطقة، وحلفاء أميركا فيها، فالمسافة بين الوجود العسكري الصيني وأستراليا، سيتقلص كثيراً، وكذلك المسافة مع نيوزيلندا، والمعادلة ستتبدل نظرياً، والأحوال لن تسوء عملياً، في المرحلة الحالية، إذ لا نتوقع أن تقوم الصين بأعمال استفزازية انطلاقاً من هذه الجزر، بل تعزيز وجودها الاقتصادي فيها، وإنشاء مصالح مالية تنفع البلد، وتظهر قدرات الصين في تحسين الأوضاع لهذه “المجتمعات الصغيرة”، ما قد يحمّس آخرين للتقرب من الدور الصيني في منطقة الهادئ، وستحاول بكين أن تجد دولاً صغيرة أخرى قد تقبل بعروض مماثلة لـ “سولومون”.
واشنطن
كانت الولايات المتحدة بالأساس تستعد لدور صيني جديد في الإقليم، وقد بدأت في نشر بعض وحداتها في أستراليا منذ فترة، وأعلنت إنشاء تحالف رباعي مع أستراليا ونيوزيلندا وبريطانيا منذ أشهر، وأوفدت مسؤوليها إلى الهادئ مراراً لطمأنة الدول الشريكة، وأميركا لا تزال القوة الكبرى المسيطرة في هذه المساحة الهائلة من المحيط، إلا أن اختراق الصين هذه المساحة، عبر قواعد في “جزر سولومون”، هي من دون شك خطوة قوية في لعبة الشطرنج بين الدول الكبرى، ستفرض دينامية جديدة ليس فقط في منطقة “أوقيانيا”، بل في مناطق أخرى من العالم أيضاً.