النشرة الدولية –
النهار العربي –
تخيّم، منذ أسابيع، حالة من الغموض والضبابية على مصير اللاجئين السوريين في تركيا، وسط معلومات متضاربة عن الاتجاه السياسي الذي تسير عليه بوصلة “حزب العدالة والتنمية” الحاكم في أنقرة إزاء هذا الموضوع الشائك والمعقد.
وثمّة من يرى أن قضية اللاجئين أصبحت مجرد ورقة انتخابية تتقاذفها طموحات السياسيين الأتراك بعدما نجحت تيارات سياسية عديدة في الداخل التركي في تحويلها ورقة ضغط وابتزاز لم يجد الحزب الحاكم بداً من الانحناء أمامها، بينما يرى آخرون أن التعاطي الرسمي التركي مع قضية اللاجئين ينقسم إلى قسمين: الأول ظاهر، يحاول التعامل مع القضية على أساس ما يمكن أن تشكله من تأثير انتخابي. والثاني خفيّ، يحاول استغلال انتقادات المعارضة التركية لملف اللاجئين من أجل استخدامها في إعادة إحياء مشاريع سياسية كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد كشف عنها من على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل ثلاث سنوات.
ورغم نفي السلطات السورية المتكرر لوجود أي تنسيق بين دمشق وأنقرة، سواء بخصوص القضايا الأمنية التي لم ينقطع التواصل بين البلدين بخصوصها، أم بخصوص قضية اللاجئين ومناقشة إمكان العودة الطوعية لهم، إلا أن الصحف التركية لم تتوقف عن تسريب معلومات حول مسار هذا التنسيق ونتائجه.
وتمثل آخر تسريب في ما نشرته صحيفة “تركيا” المقربة من “حزب العدالة والتنمية” الحاكم تقريراً تضمن تفاصيل تشير الى اعتزام الحكومة التركية (وبالتنسيق مع نظام الأسد) إعادة نحو 1.5 مليون لاجئ سوري إلى سوريا وفق جدولٍ زمني محدد.
وجاء في التقرير بحسب الصحيفة أن الحكومة التركية تعتزم إعادة مليون ونصف مليون سوري إلى بلادهم في فترةٍ تتراوح بين 15 إلى 20 شهراً من الآن، وذلك سيكون بالتنسيق مع نظام الأسد، بحسب الصحيفة.
وأشار كاتب التقرير يلماز بيلغين الى أن هذه الخطة أتت بالتنسيق بين أنقرة ودمشق وجهات إقليميةٍ أخرى بينها الإمارات وقطر طوال الفترة الماضية، وكانت الخطوات متسارعة لتطبيق ما سمّاه “مشروع العودة الطوعية”.
وأضاف الكاتب أن أنقرة أحرزت تقدماً كبيراً في خطط إنشاء مدنٍ صناعيةٍ وبناء 200 ألف وحدةٍ سكنية في مناطق الشمال السوري تمهيداً لتطبيق الخطة، وأن دولة قطر ستلعب دوراً كبيراً في تمويل المشاريع الميدانية.
كما أن المرحلة القادمة قد تشهد كثافة التنسيق والتواصل بين الجانبين السوري والتركي لمناقشة ملف عودة اللاجئين السوريين في تركيا إلى بلادهم و ملف مكافحة تنظيم PKK ووحدات “قسد” شرق سوريا.
ومن الممكن أن تشهد الساحة السورية عملية عسكريةً ضد “قسد” وتفرعاتها العسكرية في مناطق الشرق السوري (دير الزور، الرقة، الحسكة ومنبج) وذلك كي تعود آبار النفط الى سلطة نظام الأسد بحسب بيلغين.
الى ذلك، تسعى بعض الشخصيات السياسية والدبلوماسية في كلٍ من الإمارات العربية المتحدة والسعودية والجزائر والأردن إلى تهيئة الظروف الملائمة للتنسيق وعقد لقاء (هاتفي) بين أردوغان والأسد، وفق الصحيفة نفسها.
ونفت مصادر في وزارة الخارجية السورية، في وقت سابق، صحة ما نقلته صحيفة “حرييت” التركية، حول رسائل من أنقرة إلى دمشق لتحسين العلاقات.
وكانت صحيفة “الوطن” المحلية نقلت في وقت سابق من الشهر الجاري عن “أوساط في وزارة الخارجية”، نفيها تلقي دمشق رسائل قبل زيارة الرئيس السوري بشار الأسد، الأخيرة للإمارات العربية المتحدة، “تتعلق بنقاشات تجري حالياً داخل الحكومة التركية لاستغلال الانشغال الروسي بالحرب الأوكرانية، والبحث عن فرصة جديدة لخلق أجواء تدعو الى تحسين العلاقات بين أنقرة ودمشق”.
واعتبرت “الأوساط” أن ما ورد في تقرير الصحيفة التركية، “لا يتعدى كونه بروباغندا إعلامية مفضوحة، مع اقتراب الانتخابات الرئاسية في تركيا”، وتابعت أن “دمشق لا يمكن أن تفكر بأي حوار مع تركيا، ما لم تكن الخطوة الأولى هي سحب قوات الاحتلال التركي الموجودة بشكل غير شرعي على الأراضي السورية، ووقف دعم الإرهابيين والكف عن الانتهاكات المتكررة بحق السوريين”.
وكانت صحيفة “حرييت” نقلت، في 4 نيسان (أبريل) الجاري، عن مصادر حكومية أن “هناك تعليقات مفادها أن دور تركيا في الأشهر الأخيرة، بخاصة في ما يتعلق بحسم حرب أوكرانيا، وتركيز روسيا في هذه المنطقة، قد يكون وقتاً مناسباً لحل المشكلة السورية”.
وشنّ زعيم حزب “الحركة القومية” المتطرف دولت بهجلي، هجوماً حاداً على اللاجئين السوريين، وقال إنه “يجب على السوريين الذين ذهبوا إلى بلادهم خلال العيد البقاء هناك”.
وكان بهجلي، شريك “العدالة والتنمية” في “تحالف الشعب” الحاكم، قال في كلمة أمام الكتلة النيابية لحزبه في البرلمان، إنه حالما يتم القضاء على الظروف القاسية التي تسببت في مغادرة اللاجئين السوريين لبلادهم، “فإن أولويتنا وهدفنا هو توديعهم كما جاءوا بشكل آمن وطوعي”.
وأضاف: “ليست هناك حاجة لعودة اللاجئين السوريين القادرين على الذهاب إلى بلادهم لقضاء العيد”.
وكان من الواضح أن ثمة تقاسماً للأدوار بين شركاء السلطة في تركيا، إذ لم يطل الوقت قبل أن يخرج وزير الداخلية التركي سليمان صويلو معلناً إلغاء تصريح عطلة العيد للاجئين السوريين، وقال صويلو: “لا يوجد تصريح عطلة في الوقت الحالي. يمكنهم الذهاب إلى المنطقة الآمنة والبقاء هناك. ولن يُسمح لأولئك الذين يريدون الذهاب لقضاء العطلة بالعودة إلى تركيا”.
وعلق وزير الداخلية بشأن انتقادات ذهاب اللاجئين إلى بلداتهم خلال العطلة والعودة إلى تركيا، قائلاً: “لقد أوقفنا ذلك.ز. اعتباراً من هذا الأسبوع، قلنا إنهم لن يحصلوا على إجازة. حالياًَ، لا توجد عطلة. إذا غادروا، يمكنهم الذهاب إلى المنطقة الآمنة والبقاء هناك. ولن يُسمح لأولئك الذين يريدون الذهاب بالعودة”.
ويسود اعتقاد في تركيا مفاده أن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في حزيران (يونيو) من العام المقبل ستتمحور الحملات فيها حول موضوعين رئيسيين هما الاقتصاد وملف اللاجئين السوريين، وبات الأخير يشكل أولوية في خطاب كل من المعارضة والحكومة على حد سواء نتيجة تأثيراته المباشرة في الناخبين الأتراك.
وقد نجحت المعارضة التركية، خلال السنوات الماضية، في بناء سردية قوية ضد وجود ملايين السوريين على الأراضي التركية، ما شكل عبئاً كبيراً على الدولة على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية. وبعد ما كانت الحكومة التركية تتجاهل مطالب المعارضة، وتحاول التركيز على ضرورة استقبال السوريين بموجب خلفيات دينية وسياسية، إلا أنها أخفقت في منافسة سردية المعارضة التي هبت رياح الواقع التركي الرازح تحت ضغوط اقتصادية وسياسية شديدة بما يناسبها، ما منحها دفعاً قوياً خلال الأشهر الأخيرة.
ومن خلال استعادة الخسارة التي لحقت به في بلدية إسطنبول في الانتخابات البلدية لعام 2019 حيث اعتبرت قضية اللاجئين أحد أهم اسباب هذه الخسارة، لم يجد “حزب العدالة والتنمية” بداً من محاولة مجاراة السردية المعارضة والعمل على تجييرها لمصلحته لاستغلالها في الانتخابات المقبلة. ومن هذا المنطلق جاءت بعض الإجراءات التي اتخذتها الحكومة التركية، أخيراً، لتخفيف ضغط هذه القضية ومحاولة سحب البساط من تحت أقدام المعارضة، متخلية عن بعض المسلمات في سياستها تجاه قضية اللاجئين بحيث أصبحت تتحدث علانية عن “العودة الطوعية” بعد ما كان مثل هذا الحديث من المحرمات.
ويبدو أن اللاجئين السوريين سوف يدفعون ثمن التنافس الانتخابي في تركيا، ومن المتوقع أن تتزايد الضغوط عليهم في الأشهر التي تسبق الانتخابات المقبلة. ولا يستبعد بعض المراقبين أن تقوم الحكومة التركية بإجراءات إضافية للتضييق على السوريين وتكثيف الحملات من أجل ترحيل أعداد منهم بذرائع مختلفة، ولكنّ ثمة شكوكاً حقيقية من أن يستطيع “حزب العدالة والتنمية” الهيمنة على هذا الملف وتجييره لمصلحته في الانتخابات ضد المعارضة.
ومع ذلك، ثمة من يخشى ألا يكون السجال حول قضية اللاجئين السوريين مدفوعاً باعتبارات انتخابية بحتة، لا سيما في ظل وجود مؤشرات الى مساعٍ تبذلها السلطات التركية بهدف استغلال الانشغال الروسي في أوكرانيا من أجل إعادة إحياء مشاريع سياسية قديمة/ جديدة طالما شكلت حجر الزاوية في سياسة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
وفي هذا السياق، ينبه بعض المراقبين إلى أن الإجراءات الجديدة التي اتخذتها الحكومة التركية بخصوص قضية اللاجئين قد تكون مجرد محاولة لتهيئة الأرضية للعودة إلى إحياء مشروع المنطقة الآمنة الذي طالب به أردوغان من على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة (الاجتماع 74)، وما يعزز ذلك أن أردوغان اعتبر مشروع المنطقة الآمنة بمثابة حل لاستيعاب أزمة اللاجئين السوريين. ورغم أن مشروع أردوغان اصطدم برفض سوري وروسي فلم يبصر النور، إلا أن المتغيرات الدولية والإقليمية الحالية وعلى رأسها الحرب الأوكرانية قد تشكل ثغرة مناسبة للعودة إلى رفع لواء هذا المشروع مجدداً.