من قبضة الأسلمة السياسية إلى رحب الإسلام المدني
بقلم: د. مرح البقاعي

النشرة الدولية –

ما الدور الذي يفترض أن يلعبه الإسلام المدني في مسيرة المجتمعات المسلمة المعاصرة؟ وهل يستدعي هذا الدور حراكاً فاعلاً وواعياً في التجديد والإصلاح للمفاهيم المتداولة وليس للجوهر؟ وما هي درجة قابلية الخطاب الإسلامي للتجديد في ظل المقولات المتشدّدة التي يعتقد أصحابها أن الإسلام في بنيته هو دين لا يميّز بين ما هو زمني دنيوي وروحي عقائدي، وبالتالي هو غير قابل للتجديد؟ وإذا ما كان هناك بوادر للتجديد الديني الإسلامي فهل سيكون على طريقة مارتن لوثر في إصلاحه للكنيسة الكاثوليكية في القرن الخامس عشر ليقوم على أيدي رجال وعلماء دينيين، أم أن للدولة والمجتمع والنخب تأثيرها في هذا التجديد؟

من البديهي القول أن المعضلة لا تقع في النص الديني عينه، فهو ثابت لم يتغير منذ تدوينه، بل هي في الصلب من المجتمعات الإسلامية بوصفها امتداداً تاريخياً وثقافياً وجغرافياً للإسلام، مجتمعات نأت بنفسها عن قراءة الحالة المدنية في شريعة الإسلام، ودرجت على استحضارها كمفهوم عقائدي سياسي جامد غير قابل للعصرنة والتحديث.

إن غياب “حاسة النقد” للخطاب الديني وتراجع “الفعل الاجتهادي” في النص، هما ـ مجتمعان ـ ما أجج الصدام، المتواصل أصلاً، بين الجماعات الإسلامية من جهة، والتيارات العلمانية، من أخرى، الأمر الذي أودى إلى تعاظم الاحتقان الاجتماعي في ظل غياب أرضية مشتركة للحوار على أرضية تجمع فئات المجتمع كافة بجماعاته وتياراته وتنظيماته، المدنية منها والدينية، من أجل صياغة عقد اجتماعي جديد لا يبتعد عن الدين جوهراً ولا يتماهى فيه فعلاً سياسياً، بل يقف على مسافة واحدة من الأديان والمذاهب والأطياف السياسية كافة، في ظل تمكين مفاهيم الدولة المعاصرة التي أسّها ومرجعيتها المواطنة لا الانتماء الديني؛ الدولة المعاصرة التي تقوم على فصل السلطات، وإطلاق الحريات العامة، وإقرار التعددية السياسية، ومداولة السلطة، وتمكين المرأة، وإحقاق التكافؤ في الفرص، ودفع عجلة العدالة الاجتماعية.

وفي ظل هكذا تحوّلات قائمة في علاقة الإسلام بالشأن السياسي، يغدو دور الجماعات الإسلامية ـ حصراً ـ دوراً دعوياً يتداول القيم الإسلامية، التي هي أصلاً قيم إنسانية وأخلاقية وضميرية، ما يمهد الطريق واسعاً للاجتهاد وتجديد الخطاب الإسلامي، ونقده، لتخليصه من الشوائب والتراكمات العابرة للزمن، وتيسير حركة التنوير النهضوي المرتجاة بعيداً عن التجاذبات السياسية المعطِّلة (بكسر الطاء).

وعليه، فإن تجديد الخطاب الإسلامي يرتبط عضوياً بعملية تداول الإسلام ـ سياسياً ـ ضمن فضائه الحيوي الذي مساحته ضمير الفرد ومُدرك الجماعة، وذلك عودةً بالعقيدة إلى جوهرها الأول على أنها علاقة منفردة ومتفرّدة بين الفرد والله، لا ثالث لها؛ يترافق الأمر مع مواجهات نقدية ملزِمة لسياسات أسلمة الدولة وما تفرزه من غيبيات وإفتاءات جماعية قسرية، في ظل من الاحتقان السياسي والاصطفاف المذهبي والانقسامات العقائدية السياسية التي تضع منطقة الشرق الأوسط برمتها على حافات الهاوية.

وفي الحديث عن الإصلاح في أروقة الدولة الإسلامية تحضرنا تجربة الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة؛ فرؤية بورقيبة الخاصّة للخطاب الديني الإسلامي التي تؤسس لإعادة تفعيل الاجتهاد، وكذا توجهاته العلمانية التي تجلّت في الإصلاحات المؤسسية التي نفّذها في السنوات الأولى للاستقلال، وفي مظاهر التحديث الثقافي التي تضمنها خطابه السياسي، ما جعل اسمه يقترن باسم الزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك في تناوله لقضية الإصلاح الديني في الدول الإسلاميّة. إن علاقة بورقيبة الجدلية بالدين والقضايا الإسلامية التي عالجها منذ نصف قرن، لا تزال في موقع الأخذ والرد في معظم الدول الإسلامية، وأضحت إثر الهجمات الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر للعام 2001 التي شنها متطرفون إسلاميون من القاعدة على أراضي الولايات المتحدة، محور تداول عالمي.

أستعير في هذا المقام قول المفكّرالتنويري محمد عابد الجابري:”إن مستقبل التقدم الحضاري العربي والنهضة العربية، لن يتما إلا على أساس نقدي عقلي. وأن هذا الأساس لا يتناقض مع العاطفة القومية، ولا مع الحلم الأيديولوجي، بل على العكس، فمراجعة مفاهيمنا، ونقدها نقداً عقلانياً مستنداً إلى الواقع كما هو مُعطى، هو السبيل الوحيد الذي سيقودنا إلى تشييد حلم أيديولوجي مطابق، وإلى العمل الجدّي المتواصل من أجل تحقيقه”.

فصل المقال أنه أضحى من الحتميّ في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ المسألة الدينية، وتداعياتها الاجتماعية والسياسية، أن نطرح المعضلة على طاولة الحوار، ونعمل على قراءة حيثياتها وأبعادها قراءة نقدية متأنية ومعمَّقة بعيداً عن الأفكار الجاهزة، وعن لغة التطرّف ـ دينية كانت أم سياسية، ونسعى إلى الخروج بموقف موحّد وموضوعي ومنسجم مع الذات، ما يمكّن من توحيد الإمكانات، والوصول إلى إجماع شعبي واسع على منهجية توافقية تستوعب مخاطر المنعطف التاريخي الذي تمرّ به منطقة الشرق الأوسط، كما تستجيب في الوقت عينه لتسارع المتغيّرات الدولية في السياسة والثقافة والاقتصاد.

زر الذهاب إلى الأعلى