“نيابيات” لبنان: اليوم…دَوْري!
بقلم: فارس خشان
النشرة الدولية –
اليوم الأحد، بين السابعة صباحاً والعاشرة مساء، سوف أتوجّه وعائلتي الى صناديق الإقتراع المخصّصة لنا ولجيراننا اللبنانيّين المسجّلين على لوائح الشطب الإغترابية، في العاصمة الفرنسية، لانتخاب اللائحة الأقرب الى قناعاتنا الوطنية والسياسية والإجتماعية، في المرحلة الثانية من الانتخابات النيابية اللبنانية التي كانت قد انطلقت في دول عربية وإسلامية، صباح يوم الجمعة الأخير.
لستُ متأكّداً من أنّنا، في عائلتي الصغيرة، سوف نقترع للّائحة نفسها أو نعطي صوتنا التفضيلي للشخص نفسه، فلكلّ منّا مقاربة عرضها أمام الآخر، واتفقنا، في الخلاصة، على أن يحترم أحدنا سريّة الإقتراع التي يمنحها القانون لكلّ منّا.
لا أجد مشكلة في امكان أن تتشتّت أصواتنا، نتيجة تغييب سلطتي التي “منحتني” إيّاها الذكورية الشرقية، فمن يتردّد في احترام حريّة أقرب المقرّبين يخسر حقّه في الشكوى من أن يتطاول أبعد الأبعدين على حريّته.
ولا فضل لي في سلوك هذا النهج، فهو ليس نتيجة ثقافة ديموقراطية لقّننا إيّاها “الغرباء” الذين “يستضيفوننا” في بلدانهم، بل هو نهج اكتسبناه في المنزل الأبوي، إذ إنّه، ومنذ بلغنا سنّ الرشد السياسي، وفق التقويم اللبناني، تُركت لنا الحريّة في اختيار ما نراه الأقرب الى قناعاتنا المبنية على ثوابت لا عقائد، والمؤسِّسة نفسها على المبادئ لا العبادة.
ويختلف تعاطينا “الإيجابي” مع هذه الدورة الانتخابية عن تعاطينا “السلبي” مع الدورة السابقة.
قبل أربع سنوات لم نسجّل أنفسنا على لوائح الشطب النيابية، وتالياً تقصّدنا حرمان أنفسنا، بشكل مبكر، من حقّ الانتخاب في مغتربنا، مثلما حرمنا أنفسنا من حق الإنتخاب في “مسقط الرأس”، بعدم الانتقال إليه، يوم الإقتراع.
لم نفعل ذلك عن عبث، لأنّه في دورة العام 2018 الانتخابية، لم يكن هناك أيّ خيار وطني وسياسي واجتماعي “جاذب”، إذ إنّ المنافسة لم تكن على الخيارات بل على الأحجام.
المتنافسون في تلك الدورة الانتخابية كانوا بأكثريتهم، “شركاء” في العملية السياسية التي أنتجت الآتي: انتخاب ميشال عون رئيساً للجهورية والتباهي بذلك، إقرار واحدة من أسوأ الصيغ الممكنة، قانوناً للانتخاب، اعتماد النسبية في ظلّ هيمنة سلاح “حزب الله”، الأمر الذي فتّت كلّ القوى باستثناء تلك التي تمّت عسكرتها، إهمال واجب الالتزام بالقرارات الدولية الهادفة الى إعادة الإعتبار لدولة عادلة وقادرة وسويّة، تكريس وقح للمحاصصة السلطوية والإدارية والعسكرية والأمنية والقضائية المنتجة لفساد شرس ومحصّن، التواطؤ على العدالة ودماء الشهداء وحقوق الضعفاء.
وفي تلك الدورة، لم تكن القوى التي تسمّي نفسها تغييرية وتنسب ذاتها الى المجتمع المدني تتمتّع، بالحد الأدنى، من مقوّمات النجاح، خصوصاً وأنّ غالبيتها كانت تتجنّب كلّ بحث في موضوع سلاح “حزب الله”، ولا تجد صلة وثيقة بين انتهاك السيادة والإنهيار المؤسساتي، الأمر الذي أظهرها بسوء الطبقة السياسية المشاركة في السلطة.
وعليه، كان خيارنا أن نُهمل كليّاً العملية الانتخابية، فهؤلاء المتنافسون يتقاطعون في النقاط المخالفة لقناعاتنا ومبادئنا وتشخيصنا للأمراض التي وقفت وراء اضفاء صفة المغتربين علينا.
في هذه الدورة انقلبت الحال رأساً على عقب، فالخيارات المتاحة أمامنا منوّعة، وتستحق التجربة، إذ إنّ ملف “حزب الله” أعيد إلى المنافسة، وسط اهتمام عربي ودولي كبيرين بالقرارات الدولية، وصراع الأحجام هذه المرّة، على سيّئاته، اقتحم ميدان الخيارات الوطنية الكبرى، والقوى التي تسمّي نفسها تغييرية خضعت لـ “معمودية النضال” في ساحات ثورة 17 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2019 حيث انكشف أمامها وجه “حزب الله” الخطر للغاية، و”الهالات العظيمة” التي “تعهّدت ووعدت” تكسّرت على تخوم الودائع المصادرة في المصارف والرواتب المنهارة و”قوارب الموت”، وموجة الهجرة، وانفجار مرفأ بيروت، وتفتّت القضاء، وتلاشي العدالة، والغلاء الفاحش، والأزمة المالية والإقتصادية التي ندر أن شهدت دولة فاشلة مثلها، منذ قرن ونصف القرن.
الأهم في “الأسباب الموجبة” التي دفعتنا الى تسجيل أنفسنا في قوائم الإنتخاب ومن ثم التوجّه الى صناديق الاقتراع، هو اطّلاعنا على أنّ موازين القوى التي ستتحكّم بالمجلس النيابي المقبل، سوف تعكس نفسها على نظرة الخارج الذي نحتاجه في عملية الإنقاذ، إلى لبنان، فسيطرة “حزب الله” مجدّداً على الأكثرية، من خلال الإئتلاف الذي أنشأه على امتداد لبنان، سوف تنعكس سلباً على جميع اللبنانيين، لأنّ دولاً فاعلة، سوف ترفض مساعدة بلد تتحكّم به قوّة متّهمة، عربياً وأوروبياً وغربياً، بالإرهاب وتضم شخصيات مدرجة في قوائم العقوبات، الأمر الذي لمسنا نتائجه في أكثر من دولة في الشرق الأوسط والعالم، عندما سيطرت عليها، في الانتخابات التشريعية، قوى متّهمة- عن حق أو عن باطل- بأنّها إرهابية.
ومع ذلك فنحن “لسنا سُذّجاً” كما يقول الفرنسيون، عندما يتّخذون خيارات ليست مضمونة النتائج.
“لسنا سُذّحاً” لأنّنا ندرك أنّ الانتخابات النيابية، مهما كانت نتائجها، لن تُحدث التغيير المطلوب الذي يحتاج الى جهود وإمكانات وإرادات جبّارة محلياً وإقليمياً ودولياً، ولكن يكفي، بالحدّ الأدنى، أن نوصل، متوسّلين أقلام الاقتراع، بعدما انعدمت فوائد السبل البديلة، كالمقاطعة مثلاً، صوتنا الداعم للإنقاذ، وأن نترجم القناعات التي عبّرنا عنها، غير آبهين بصفقات سياسية أنتجت ما أنتجته من ويلات، منذ سنوات طويلة، إذ إنّه لا يُعقل أن نصول ونجول، وعندما تلوح في الأفق فسحة ضوء، ولو كانت صغيرة وضئيلة ومرحلية، نسارع الى حجبها.
وعليه، سوف أقترع اليوم، بالروحية نفسها التي كانت قد دفعتني الى دعم الفاعليات التي أنتجت، في العام 2005، ما سمّي ب”ثورة 14 آذار”(مارس) وفي 2019 ما سمّي بـ”ثورة 17 تشرين” (أكتوبر).
هاتان الثورتان لم تُحققا، بفعل إدارتهما السياسية، ما كان المشاركون فيهما يصبون إليه، لكن، وللإنصاف، فإنّ لبنان، في ضوء كلّ منهما، شهد تطوّرات إيجابية لن ينجح المتضرّرون منها، ولو استعملوا ما بقي من احتياطاتهم التهديمية والترويعية، في طمرها، لأنّ الثورات البيضاء، ولو كان الجميع يستعجلون النتائج، تُثمر ببطء، لأنّها، بطبيعتها، تُطعم الأبناء والأحفاد ما يزرعه الآباء والأجداد.
وبهدْيِ هاتين “الثورتين”، وفي ظلال المعاني الفرنسية لعبارة “لسنا سُذّجاً” أتوجّه، اليوم، إلى صندوق الاقتراع، لأنتخب من أعتقد أنّه الأقرب الى… إرثهما!