جنازة “الميكروفون”: دروس لهؤلاء وهؤلاء
بقلم: حسين الرواشدة
النشرة الدولية –
بوسع الذين يجلسون على مقاعد الدين أو السياسة أو الإعلام أن يدققوا بصورة” شيرين أبو عاقلة”، رحمها الله، وهي محمولة على الأكتاف يشيعها الملايين، بمزيج من الحزن والاحتفاء، لكي يسألوا أنفسهم سؤالا واحدا: كيف انتزعت هذه الفتاة احترام الناس ومحبتهم؟ وكيف تحولت جنازتها لـ”جامعة إنسانية” ألقت دروسها على العالم بأسره، فيما مرّ كثيرون، كانوا ملء السمع والبصر، دون أن يذكرهم أحد بخير، أو يذرف عليهم دمعة واحدة؟
هؤلاء الذين أذكّرهم بالمشهد، يتوزعون بين إعلامي باع ضميره، أو خان أمانة الكلمة، أو تنازل عن قضيته لحسابات رخيصة وزائلة، أو اعتقد أنه يتشاطر على الناس ويتذاكى عليهم، فيما وضع قلمه في سلة الفاسدين الظالمين، وبين متدين اعتلى منصة الفتوى فأصدر باسم الله أحكامه، ولم يتورع أن يدخل من يشاء، أو يطرد من يريد، من رحمة الله وجنته، أو سياسي أخذته السلطة بالإثم، فمد يديه للمال العام، أو تجبّر على عباد الله بالظلم والفجور، كما أضم إليهم آخرين، سرقوا الأضواء من المجال العام، وتصدروا الصفوف بحجة أنهم يمثلون المجتمع، لكي يحظوا بالتصفيق علنا ويحرسوا مغانمهم بالسر.
تنتمي “شيرين” إلى صنف آخر، هم الآن مدينون لها بالشكر مرتين: مرة لأنها كشفت أمامهم صورة الإعلامي الحقيقي، (ومثله السياسي والديني)، الذي يحمل قضيته ويدافع عنها، ويضحي من أجلها، ومرة ثانية لأنها كشفت لهم لحظة الحقيقة حين يداهمهم المصير المحتوم، فيتحولون إلى أبطال حقيقيين، يلهمون الأجيال، ويتركون بصمة “الحرية” شاهدة على اندحار الظلم وخفوت صوت الباطل، وانتصار العدالة.
هؤلاء الذين تنتمي لهم الصحفية الفقيدة، وينتمون إليها، (على ندرتهم)، لديهم ما لا يخطر لبالهم من خزانات القوة المهنية والأخلاقية والإنسانية لخوض معاركهم من أجل الحق والحرية، ليس من أجل بلادهم فقط، وإنما لأجل العالم، والانتصار فيها أيضا، لديهم القدرة على مواجهة الظلم والفساد والاحتلال والكراهية، ومن حقنا عليهم، وواجبهم علينا، أن لا يستهينوا بها، وأن يبحثوا عنها دائما داخلهم، فهي ملك لمجتمعاتهم وللإنسانية، ومهما بدت هذه الطاقات بعيونهم بسيطة، أو لا جدوى منها، فإنها -ولو برمزيتها- قادرة على التغيير أكثر مما نتوقع أو يتوقعون.
كما خسر الاحتلال، على الرغم مما يملكه من قوة وجبروت، أمام ميكروفون إعلامية لا تحمل إلا ضميرها وقضيتها العادلة، أجزم أن كثيرين من الذين يواجهون الناس، بما يملكون هو من سطوة سياسية أو دينية مغشوشة، أو إعلامية زائفة، بالكذب والنفاق والقهر والاستهانة، سيخسرون أيضا، شاهد الخسارة لا ينتصب، فقط، وسط زحمة الحركة والنشوة والحياة الزائلة، وإنما عندما تدق ساعة المصير، عندها بدل أن يشيعهم الناس بالدعوات والعبرات، سيطاردونهم بالويل واللعنات.
قوة الأمة الحقيقية، كما عكستها مرآة جنازة “شيرين” تكمن في ضمائر ومشاعر الشعوب، وما لديهم من طاقات إنسانية وأخلاقية ووطنية، هؤلاء الناس الطيبون الذين لم تلوثهم أضواء النفوذ والهيلمان، هم الذين فهموا رسالة “صاحبة” القضية الحقيقية، وحاملة همها، وهم الذين خرجوا للشوارع للاحتفاء بروحها وهي تطير في السماء، أما الذين انشغلوا بحساباتهم السياسية، أو بتوزيع المقاعد في الجنة والنار على عباد الله، أو المطبّلون الجاهزون والنائحون المستأجرون، فهؤلاء لا نصيب لهم في الخير، ولا حظ لهم بالمعروف، ولا قيمة لهم في موازين الأمة وشعوبها التي تميز الغث الخفيف من السمين الثقيل.
“شيرين” ليست الوحيدة التي تقف في قائمة الشجعان، الذين ضحوا بأرواحهم من أجل الدفاع عن قضايا أوطانهم، فقد سبقها على ذات الطريق إعلاميون وسياسيون، جمعتهم أخلاقيات الإنسانية العابرة للحدود والأديان والأجناس، واهتزت على إيقاع رحيلهم قلوب المحبين والمعجبين والملهمين، لكنها درس طازج لكل الذين تطاردهم أشباح اليأس من الواقع والمستقبل، أو سطوة الكذب والنفاق والتغطية المغلفة بألغام المكاسب والمغانم.
كما أنها درس للآخرين الذين ما زالوا “يبرطعون” بالظلم والقهر والفساد، أو يخرجون من مناهلها ويمدون لنا ألسنتهم، هذه الفلسطينية العربية المسيحية درس لنا جميعا، لكي نفهم ما فعلناه بأنفسنا، وما يمكن أن نفعله لإرضاء ضمائرنا، ودحر المعتدين على بلداننا وحقوقنا، لكي نستحق محبة الآخرين وتقديرهم، ودعواتهم بالتوفيق لنا في الدنيا، والرحمة بعد الممات.