شيرين… جان دارك الفلسطينية
بقلم: طوني فرنسيس
مصرعها في مايو يحيي آمال وحدة برزت قبل سنة ويدين انفصالاً قبل 15 عاماً
النشرة الدولية –
لم تكن شيرين أبو عاقلة قائداً في تنظيم فلسطيني يمتهن الكفاح المسلح لاسترجاع الحقوق، ولم تكن رجل دين وخطابات ليصدح صوتها عبر مكبرات الصوت في غزة والقدس. كانت مراسلة صحافية تولت منذ ربع قرن نقل مأساة شعب تحت الاحتلال، في تفاصيلها اليومية، من دون زيادة أو نقصان، فدخلت منازل الملايين وجعلت لها مسكناً في قلوب أبناء شعبها الذين ترقبوها ساعةً بساعة، لتختتم رسائلها إلى قناتها الفضائية بتلك اللازمة البسيطة: “شيرين أبو عاقلة. الجزيرة. فلسطين”.
على مدى 25 سنة، كانت شيرين حاضرة في قلب الحدث الفلسطيني، وفي عمق المعاناة الفلسطينية، في أهم نقاطها. في القدس كما في رام الله وجنين وسائر أنحاء الضفة. ومن داخل الصراع المحتدم نسجت حكايات الأيام المتتالية لصراع لا ينتهي بين الاحتلال وأصحاب الأرض. في كل يوم، بل في كل ساعة، حكاية جديدة، وتراكمت القصص الحقيقية لتصبح ملفاً ينبغي إقفاله، فكان القتل على أطراف جنين.
قُتلت المراسلة الفلسطينية ذات الصدقية العالمية والفلسطينية والعربية في سياق بات معروفاً ومكشوفاً. منذ بداية هذه الألفية ذهب نحو 40 صحافياً فلسطينياً ضحايا القتل في الاراضي الفلسطينية، وقبل ذلك منذ 50 عاماً، افتتحت إسرائيل مسيرة الخلاص من الكتاب والصحافيين الفلسطينيين المزعجين، الذين يحيون تراث وصورة بلدهم المنكوب، بتفجير الكاتب الصحافي غسان كنفاني في بيروت، وكما حصل مع شيرين سارت مخيمات اللاجئين وآلاف اللبنانيين في مسيرة تشييعه “تحت الشمس” الحارقة، إلى مدافن الضحايا في العاصمة اللبنانية.
مع شيرين أبو عاقلة سارت فلسطين في فلسطين. كانت جنازتها، ربما، الأطول في تاريخ الجنازات. 75 كيلومتراً هي المسافة من جنين إلى رام الله فالقدس، نعشها حُمِلَ في كل محطات الطريق، والجمهور احتشد مودعاً بقلوب غاضبة وعيون دامعة. كان المشهد كافياً، بعد التكريم الرسمي في رام الله، وردود الفعل الفلسطينية من غزة إلى الجليل، لجعل الاحتلال فاقداً لأعصابه، فانخرط جنوده في القدس في عملية اعتداء على الجنازة لم يشهد التاريخ مثيلاً لها.
شاهد العالم بأسره هجوم الشرطة الإسرائيلية على مشيعي شيرين وحملة نعشها، إلا أنهم لم يتركوه وتمسكوا به مرفوعاً على الأكف ليكرسوا صورة شيرين أبو عاقلة رايةً ترفع ولا تسقط وفي القدس بالذات.
سيفكر الإسرائيليون كثيراً بما جرى في القدس القديمة، فإذا كان تشييع شيرين جذب كل هؤلاء الآلاف من الفلسطينيين على الرغم من القمع والحواجز، فماذا سيحصل لو تحررت المدينة يوماً وعادت إلى أصحابها؟
وقف الاحتلال عارياً إلا من بنادقه. العالم كله أدانه في مقتل نجمة القدس، واستهجن مستغرباً سلوكه في يوم وداعها.
والشعب الفلسطيني وحّدته شيرين بمصرعها. من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال سادت ردود فعل واحدة. لقد جسدت شيرين للفلسطينيين جميعاً صورة الوطن الضائع، لكن النابض بتمسكه بالوجود. كان مصرعها إحياء لمعنى الوحدة الشعبية الفلسطينية التي تجسدت في مايو (أيار) من العام الماضي دفاعاً عن الحي المقدسي الشيخ جرّاح، وكان إضافةً نوعية للمواجهة مع الاحتلال في الأقصى وكنيسة القيامة. وفي بُعد آخر، كان تذكيراً بأن انفصال غزة في شهر استشهادها (منذ 15 عاماً) لا جدوى منه سوى خدمة استمرار الاحتلال وتأبيد سيطرته. لكنها سيطرة هزتها بقوة دماء صحافية متواضعة ومتزنة اسمها شيرين أنطون أبو عاقلة، عاشت ودفنت في القدس، لتتحول إلى جان دارك فلسطين كما كانت جان دارك رمزاً لفرنسا الناجية.