عن شيرين والبنادق
بقلم: صبا مدور
النشرة الدولية
المدن –
يجيد الفلسطيني إنتاج رموزه، فكل شيء على أرضه وفي تاريخه ومن بين أهله يمكن أن يتحول إلى أيقونة لتأكيد الهوية، وهي صنعته منذ الاحتلال قبل 75 عاما. هكذا صار الزيتون رمزا، والكوفية رمزا، والحجارة رمزا، والثوب المطرز رمزا، وبرتقال يافا رمزا، ومفتاح بيت الجد رمزا، وحنظلة رمزا وبعده موكب من الرموز الآدمية: غسان كنفاني وناجي العلي وعياش وعرفات وحبش وأبو جهاد وأحمد ياسين والرنتيسي وموكب طويل من الشهداء وصولا إلى شيرين أبوعاقلة.
تحولت شيرين إلى رمز من دون تمهيد وبسرعة فائقة، فقد كان يكفيها أن تكون هي، وأن تسقط بالرصاص الاسرائيلي، ليبدأ ترسيمها كأيقونة جديدة لفلسطين. تقلق اسرائيل كثيرا من الرموز الفلسطينية وتخشى منها أكثر من خشيتها من البنادق ربما، هي تعلم أن هذه الرموز هي مداميك في الهوية الفلسطينية التي هي نقيض اسرائيل، وعدوها الذي لا ينفع معه سلاحها ولا قنابلها النووية. ولذلك حرصت اسرائيل دوما على قتل هذه الرموز واحدا تلو الآخر لكنها كانت تصنعهم من حيث لا تدري.
قتل غسان كنفاني بعد خمس سنوات من إصدار دراسته المهمة (في الأدب الصهيوني)، وفيها خلق للاحتلال جذورا تعود إلى ذلك (اليهودي التائه)، وفي هذه التسمية خلق رمزية خرقت جدارا اسرائيليا من التضليل الاعلامي والثقافي والتاريخي هو أهم عند الاحتلال من القوة العسكرية والاقتصادية، فذلك وحده ما يحفظ سردية إسرائيل ويضمن لها شعورا نسبيا بالأمن المؤقت.
إنتاج الرمز المضاد للسردية الصهيونية، قتل كنفاني، رغم أنه لم يكن مقاتلا ولا زعيما سياسيا، وهو حال ينطبق على أدباء ومفكرين وفنانين فلسطينيين، ومنهم وائل زعيتر، كمال ناصر، كمال عدوان، محمد يوسف النجار، ناجي العلي، وسواهم، فضلا عمن نجوا من محاولات اغتيال مماثلة.
لم تحتمل اسرائيل رسما كاريكاتوريا لطفل من الخلف لم نر وجهه أبدا اسمه حنظلة، يظهر حيثما كان هناك موضوعا لفلسطين وحولها، فقتلت مبدعه ناجي العلي، بل أنها لم تحتمل مركزا للدراسات هو مركز الابحاث الفلسطيني في بيروت، فكان اول مكان تدهمه الدبابات الاسرائيلية حينما دخلت غربي العاصمة اللبنانية صيف عام 1982 ونهبت محتوياته وفيها ما لا يقدر بثمن من الوثائق والمعلومات التي تؤرخ للقضية الفلسطينية وتاريخ الصراع وحقوق الشعب الفلسطيني.
إسرائيل تخشى الحقيقة والمنقبين عنها من مفكرين وكتاب وصحافيين ومناضلين، مثلما تخشى من المقاتلين، وتخيفها الرموز والايقونات الوطنية والشعبية أكثر مما تخيفها البنادق، وهي تدرك تماما أن هذه الرموز هي من يجعل البندقية يقظة، وهي من يتنقل بالقضية وإرادة التحرير بين الأجيال، وهي من يجعل أحفاد المهاجرين الفلسطييين في أنحاء العالم، الذين لم يعرفوا بلادهم يوما، يتشبثون بالهوية الفلسطينية، يحملون همها، وينتصرون لها، يفخرون بلباسها، وتقاليدها، ويتناغمون مع اهلها حيثما كانوا وأي جنسية حملوا.
وسط هذه الدوامة الرمزية التي تحيط بإسرائيل، ولد رمز جديد، هذه المرة كان من خلال قناص اسرائيلي، قتل شيرين أبو عاقلة برصاصة دقيقة، لاشك أبدا أنها كانت مقصودة، ولهدف مباشرهو إرهاب الصحافيين، ومنعهم من ملاحقة القوات الاسرائيلية فيما يبدو انه كان مخططا لاقتحام المدن الفلسطينية ابتداءا من جنين.
أرادت إسرائيل أن تجعل شيرين عبرة لكل من يفضح اسرائيل، أرادت بقتلها أن تطفئ الأعين وتسكت الأصوات وتستبيح بلا رقيب، لكن ما حدث كان العكس تماما، بل وتحولت تلك الرصاصة بفعل عجيب إلى فضيحة ارتدت على مطلقيها، فيما تحولت الضحية إلى رمز فوري Instant Icon وكأن فلسطين كانت بحاجة إلى أيقونة بل إلى ملحمة فلسطينية في هذا الزمن الرمادي حيث تغيب ملامح الأشياء والاشخاص ويختلط الاعداء بالاصدقاء، ويتزاحم الباطل مع الحق، في هذه اللحظة التاريخية ارتقت شيرين، لتمثل لحظة انبعاث للقضية الفلسطينية من غياهب النسيان والتآمر، لتعيد الفرز والتحديد وتفصل بين الأسود والأبيض، وتكشف الحقيقة بشكل مدهش، ربما لم تفعله بهذا الحرفية والابداع، حتى وهي حية.
أنتج الشعب الفلسطيني رمزية شيرين في لحظة استشهادها، ليس فقط لأنها كانت تستحق ذلك، ولكن أيضا لأنه كان بحاجة إلى رمز جديد وسط خذلان المطبعين، رمز لهذه اللحظة، رمز يحرض، ويفضح، ويوحد، ويستعيد الرموز الأخرى، يستعيد علم فلسطين وأسوار القدس وتكبيرات المساجد وأجراس الكنائس ووحدة الشعب، ويستعيد ملامح أم سعد في ابتسامة حفيدة من حفيداتها ويعيد عنونة قصة غسان كنفاني عن الرجال والبنادق.
مشكلة إسرائيل أنها تواجه شعبا حافلا بالرموز، وبقدرة متفردة على إعادة انتاجها مع كل حدث. مشكلة إسرائيل أنها كلما انتهت من رمز فلسطيني بالقتل فهي تعيد ضخ الروح فيه وتحوله إلى سبب جديد للمقاومة. هذا ماحدث مع كنفاني وعرفات واحمد ياسين وغيرهم، ويحدث الآن مع شيرين أبو عاقلة. فتلك الرصاصة قتلت شيرين وأحيت اسم فلسطين في النفوس والضمائر وجرت على الألسن وفي كل بقاع العالم في ثلاثة أيام كما لم يحدث على مدى أعوام عديدة.
في رثائه لغسان كنفاني كتب محمود درويش يقول:
كم يشبهك الوطن!
جميل أنت في الموت يا غسان.. بلغ جمالك الذروة حين يئس الموت ومنك وانتحر، لقد انتحر الموت فيك..أيها الفلسطينيون..احذروا الموت الطبيعي…!
وكأن شيرين اطلعت على وصية درويش هذه، فمارست الموت على طريقة غسان كنفاني، تاركة الجيش النووي مهزوما في معركة النعش والعلم.