لماذا ترفض النخبة موسيقى الرّاب؟

بقلم بثينة عبد العزيز غريب

النشرة الدولية –

موقع الواو –

كلما سُئلت “ما هي موسيقاك المفضّلة؟”، لم أجد إجابةً واضحة. فعلاً، لا أعرف، بل يبدو لي من أكثر الأسئلة صعوبة، فالعلاقة مع الموسيقى لا يحدّها ذوقاً بعينه. يخطر على بال المرء أحياناً الثورة على ذوقه المسطّر سلفاً وبناء حالة نفسية جديدة في علاقته بالموسيقى. ربّما هي الرّغبة في الخروج من دائرة المملّ والدخول في حركية وديناميكية بتجربة ما يأتينا به المجتمع. فأيّ موسيقى وأيّ تعبير إنساني هو جزء من لوحة تشكّل المجتمع في صوره المختلفة والمتعدّدة. والاعتراف بكلّ هذه الصور هو تصالح مع ذواتنا، بالضبط، مثلما علينا الاعتراف بأشكال وجوهنا المختلفة.

لماذا إذن يميل البعض إلى إسقاط جزء من اللوحة المشكّلة لموسيقانا؟ لماذا الرّاب عند  “النخبوية” هو مارق عن الأخلاق والفن…؟

لنتفق أوّلا أن مفهوم النخبة في هذا الإطار، هي مجموعة من الأفراد تفرد نفسها بالثقافة أو تريد احتكار الفضاء العام بفرض مفهومها الخاص للثقافة والفن والجماليات وتكلف نفسها بنفسها مسؤولية حراسة القطاع الثقافي والفني من زاوية معاجمها المسقطة على المجتمع. وعادة ما تدخل هذه النّخبة في جدال مع كلّ من ينتج أو ينشر موسيقى الرّاب.

لتحليل جدلية تلقي موسيقى الراب في الشارع التونسي، ذهبنا إلى الفضاء العامّ الافتراضي وقمنا بملاحظة وتحليل محتوى بعض التدوينات التي تتوزّع بين مؤيّدة ومعارضة لموسيقى الراب وانتقينا عينة ممثلة لما نسمعه غالبا في الشّارع التّونسي والبرامج التلفزيّة التونسية.

ما هي موسيقى الرّاب؟

تختزل تدوينة لمواطنة  تونسيّة معنى موسيقى الرّاب، في التّالي: “هو فن الوجدان يترجم آهات الطبقة الكادحة و يكشف عن المشاكل الاجتماعية التي يعانيها الشباب بلهجته و شجنه فتراه يتوغل في الوجدان دون استئذان و ينساب مع المستمع و كأنه قد وجد الحلول فهو اذا متنفس جميل و إبداع لأنه يلامس الاجتماعي و الاقتصادي و السياسي… “وهذا المفهوم هو السّائد والمتعارف عليه لدى جزء من الشّارع التّونسي.

ماهي تمثّلات “المدعوّة” النخبة لموسيقى الرّاب؟

يتساءل الإعلاميّ المكي هلال في تدوينه فايسبوكية ننشر جزءاً منها :”ألا ترون أن هناك مبالغة في السنوات الأخيرة في الإعلاء من شأن les rappers وأغلبهم نصف متعلمين وذلك على حساب فنانين حقيقيين درسوا الموسيقى ويفهمون المقامات الموسيقية ويحفظون المقامات الاجتماعية؟ّ

وسؤاله ذكّرني بقولة لـ  كلايف بل في كتابه “مالفن” وهذه المقولة تحمل إجابة دامغة متمثّلة في: “الفن الردي مضيعة للوقت، لكن ماض ران لم يسيء للفن الجيد، لنقلع عن فكرة أن الفن شيء يعيش في متاحف لا يفهمها الا الدارسون…”

هل الأخلاق أوّلاً، ثم حرّية التعبير؟

دوّن أحد المواطنين معلّقا على منشور الإعلامي مكّي هلال بالتالي: ” هو ذوق لا علاقة له لا بالأخلاق و لا بالدين لكن له علاقة بالواقع التونسي للأسف، الذي هو في الحضيض… كان هذا الرّاب في السّابق يتم في “ستر الله” و في نطاق شبه ضيق و لا أحد يسمع عنه ولكن للأسف أصبح الآن في كل مكان … يحاول هذا النوع هذا يرسخ في كلام بذيء ولست اتحدث عن الفنان هذا بقدر ماهو النوع المتمرد هذا من الفن هو فهم خاطي لحرية التعبير يلزم يكون فمه ظوابط اخلاقية.” حسرة واضحة من هذا المواطن على الماضي حين كان فيها “الرّاب” محظورا من نظام الرّئيس المعزول والرّاحل زين العابدين بن علي وحين كان “عمّار 404 مؤسسة قمعية على النات وسجنا لحرّية التعبير. وكان بن علي يهاب هذا النوع من الموسيقى  التي تجرّأت عليه فسلخت نظامه البوليسي القمعي.

وفي نفس هذا السّياق التقييمي الأخلاقوي والوصائي، يكتب أحد المواطنين: “أعود لأكتب عن الراب و مُغنّيي الراب في تونس وما يُنتج من أغاني هي أبعد ما يكون عن الفن والذوق الفنّي الراقي، أنا لست ضدّ مثل هذا النوع الموسيقي إذا استجابت كلماته ومعانيه لمعايير أخلاقية واجتماعية تؤسّس  لأهداف نبيلة و مفيدة ولكنّي ضدّ ما نسمعه يوميا من مغنّين يساهمون في تلويث المشهد السمعي الغنائي بالرداءة والبذاءة .”

ويذهب نفس هذا الرّأي إلى  أنّ: “الفن والموسيقى هي أدوات ووسائل راقية لمعالجة الواقع وتقديم رسائل للمجتمع قصد الرقيّ به و إبراز تراثه  وتطوير وعيه و فكره على غرار بقية المجالات ، ما يؤلمني غياب أدوار وزارة الثقافة في  حماية الذوق الفني الموسيقي من الرداءة …”

بل يواصل: “ما يؤلمني أيضاً المشهد السمعي البصري الذي تؤسّس أغلب قنواته للذوق الرديء وما يحزّ في نفسي أكثر هو غياب التأطير العائلي ولا مبالاة الأسرة التونسية والمؤسّسات التربوية الاجتماعية، من أجل إنقاذ أبناءنا وبناتنا من تيّارات جارفة لا تُؤسّس إلاّ لمزيد تعفين الذوق الفني وانحطاطه وبالتالي ضرب مجتمعاتنا وتماسك نسيجها…”

 

لماذا هذا الانغلاق داخل ما يعرف بالزّمن الجميل أو الماضي؟

لن ننزلق في تحليل مقارن بين زمن جميل و زمن رديء . ولكن من الضّروري التمعّن في القطيعة التي كانت بين بعض الفنانين قضايا مجتمعهم قبل انتشار موسيقى الرّاب. ومن بين هؤلاء الفنّانين من اعترف في برامج تلفزيّة كبرى بغنائه قبل الثورة داخل قصور بورقيبة وبن علي. وربّما توصّلنا من خلال التشخيص إلى أنّ هذه القطيعة بين مشاغل الفن واحتياجات المجتمع آنذاك هي التي اتسعت هوّتها فتفجّر عنها صرخات موسيقية تعبيريّة في شكل الرّاب. وإن فشلت الموسيقى الوتريّة في الدفاع عن مكانتها اليوم مقارنة بموسيقى الرّاب فليس فنانو الرّاب هم المسؤولين وانّما عجز هذه الموسيقى عن التقدّم والتموقع والانتماء لمجتمعها هو السدّ المنيع أمام نجاحها جماهيريّا.

فحين صمت فناّنو ما يعرف بالزّمن الجميل واكتفوا بممارسة الفنّ للفن كمتعة وتلذّذ وإبحار في الخيالات الجميلة وسحر أيضا، حين صمت هؤلاء تعمّق هذا الشعور بالكبت لدى المواطن العادي وتراكمت الأوجاع وصار على الثّورة أن تنفجر خارج السحر والهلاميات ومنها تمخض الراب مثلما انتعشت أشكال تعبيريّة أخرى بعد 2011  كالكاريكاتور…

هل يجب خذلان الكادحين من أجل لذة النخبوية القديمة؟

نعتقد أنّه آن الأوان للقطع مع النخبوية في مفهومها المتعارف عليه و”الهادم” لديناميكية المجتمعات وتطوّرها. لا وجود لنخبة ثابتة ويحتكرها أناس معيّنين بل لكل مجال ولكل قضية ولكل رأي نخبته الحرّة ، فحتى المستمعين والمحبّين لموسيقى الرّاب هم النخبة في بيئتهم.

لا يمكن لمجتمع في عام 2022 تموت نساؤه في ظروف عمل غير آمنة في القطاع الفلاحي، ومجتمع يستغل فيه الإنسان ويتاجر فيه بالأطفال على مرأى الجميع، ويقتل فيه البريء ويجوع فيه حتى موظف الدولة، وتهترئ فيه الطبقة الوسطى ويحكمها النظام الواحد ورؤوس الأموال المدمّرة لكيان وخصوصية كل مجتمع…لا يمكن لهكذا مجتمع ألا “تنسلخ” عنه موسيقى هي جلدته وعمقه وقلبه وحقيقته.
موسيقى الراب العنيفة التي تأتي من شباب هم جزء من هذا الألم وهذه التجربة الإنسانية المؤلمة في المجتمع التّونسي. إنّها موسيقى تعكس حالة الغليان تعبّر بلهجة الشّارع عن الشارع الذي لم يعد تطربه “زينة بنت الهنشير” و”تحت الياسمينة أو الزيتونة في الليل، ولم يعد يهتم لمحلا زينك أو للا البية وهو يشاهد أمهات ثكالى متألمات يتساءلن هل مات أبنائهن أو أحياء؟

إن كان هذا حال المجتمع التّونسي اليوم، فما بالك بحاله في أنظمة ديكتاتورية سابقة؟ فكيف لا يصغي تونسيّا إلى “عباد في تركينةّ” لفريد اكسترانجيرو ويعلم سلفاً أنّها صورته سنة 2005، وتفوته ليام لبلطي سنة 2007 وأولاد الحومة لدوبل باك في نفس السنة؟ وأغنية الجنرال التي أعتبرت النشيد الرسمي  للثورة التّونسية، هذه الأغنية التي عنونها بريس البلاد ليعلو صوتاً مندداً بالنظام القمعي البوليسي لبن علي وأعتقل بسببها. وكيف لا يصغي تونسياً لحوماني كافون وحمزاوي وهو فعلاً قبل وبعد الثورة:” كيف الزبلة في بوبالة ّ…فقري..” وكيف لا يستشعر معاناته مع كلاي ببي جي…ولا يمكنه أن يتنكّر لموسيقى هي سبب خروج للشّارع، في حين كان فنانو البلاط يختبؤون داخل منازلهم ينتظرون مآلات الثورة حتى يقررون أي موسيقى ينتجون، وهذه كانت إجابة أكثر من فنان وتريّ خلال الثورة في برامج تلفزيونية موجودة نسخها على اليوتيوب. بل من الفنانين من انتقل من الفن الشعبي الى الأغنية الدينية مع صعود حركة النّهضة للحكم…

أعتقد أنّ تشخيص الواقع التّونسي منذ أربعين سنة فقط كافياً لأنّ نسأل: كيف يتكلمون عن  موسيقى الرّاب في خانة التصنيفات الأخلاقوية الرديئة وغيرها؟ ولنفترض أنه يمكن إخضاعها لهذا التقييم “الأخلاقوي”: هل هي أكثر رداءة من وضعية المجتمع التّونسي اليوم؟ لماذا نعترض على محاولات تعبيرية تفوح بنتانة الواقع المجتمعي الذي نحن فيه ولا نتساءل حول جذور وأسباب هذه النتانة؟

إنّ موسيقى الراب متناغمة جداً ومتماهية مع حقيقة المجتمع ونداءات شعب مقموع فكرياً وتعبيرياً ومادياً وسياسياً، لأنه الى اليوم يسحرونه بوهم حرية التعبير، لكن في الواقع هي حرية تخضع لمقايضة مع حقه في الحياة الكريمة التي تحترم فيها حقوق الإنسان في جميع تجلياتها.

قالت مرة مغنية تونسية “: ماذا أفعل بالحرية وأنا جائعة؟” وضحك منها وعليها الجميع ولكنها تعبير واقعي عن حالة المقايضة التي إن تواصلت الوضعية على هذه الشاكلة وتواصل التردي الإقتصادي والاجتماعي فسيردد البقية كلامها، ولا يخفى على أحد أن من بين أبناء الشعب من بات يحن إلى نظام بن علي. فبالنسبة للمواطن الجوع في عهد النظام البائد أكثر رحمة من جوع أنظمة وحكومات متعاقبة بعد الثّورة التونسية.

يظل الراب تعبير إجتماعي وفي -على قسوته-ا للمجتمع تتغنى بهمومه. من يتذكر آمال المثلوثي التي كانت الثورة سبب شهرتها بأغنية كلمتي حرة أمام وزارة الداخلية في الرابع عشر من شهر جانفي 2011؟ لا أعتقد الكثيرين وحتى هي لا أعتقد أنّها تتذكر صورتها تلك.. فعلى ما يبدو أنها قد تابت عن السلام منذ دخلت بيت السلام وغنت في أمريكا حتى أنها تزوجت أمريكيا وهاجرت.

ولنتوقف عند هذه الصورة: يشهد الراب إقبالاً جماهيرياً حتى أن البرامج التلفزيونية التي تتصارع على نسب المشاهدة لا تتردد في استضافة “رابور” لأنه الضامن الوحيد لتحقيق نسب المشاهدة، بل إن بعض الوتريين يتهافتون على الثنائيات على أن يكون الطرف الثاني رابور. لنفهم من هذه الصورة أو اللّوحة أنه لم يبقى للشارع التونسي من كلمة تحكي وتحاكي معاناته الحالية سوى موسيقى الراب بلهجة حقيقته. والبقية أغاني “أعراس” ومهرجانات وإعادات للتراث ومشاريع موسيقية تستجيب لشروط الدّعم الحكومي.

لماذا إذن تريد “النخبوية” سلخ المجتمع التّونسي وتقشيره من جلدته الواقعية والناقلة لراهنه والذي تعكسه موسيقى الرّاب؟ أليس علينا أن ندخل المجتمع بأكمله إلى مختبر علماء الاجتماع ونفكّكه قبل تصدير مغالطات بتعلّة وهم الأخلاق والحلول أوصياء على الذّوق العام؟

زر الذهاب إلى الأعلى