الدكتور سليمان سليم جندي وطني مجهول
بقلم: رلى السماعين

النشرة الدولية –

الدستور الأردنية –

خالي الدكتور سليمان سليم السماعين الذي لم ألتقه ولم اعرفه عن قرب، لكن أعلم من أصدقاء له التقيت بهم بأنه رجل كان مخلصا للقضية الفلسطينية، وبأنه كان يُعرف ويُلقب بـ «طبيب الثورة». هو أخ لوالدتي من والدها. فقد توفيت زوجة جدي سليم السماعين الاولى بعد أن انجبت الدكتور سليمان (الذي درس الطب في مصر ثم تخصص في امراض المناطق الاستوائية من بريطانيا 1920)، والمحامي زكي (درس المحاماة وتخرج من الجامعة الامريكية في بيروت)، ووديع (درس سياسة واقتصاد وتخرج من الجامعة الامريكية من بيروت أيضا). بعد تخرجهم ذهبوا من الكرك الى فلسطين حيث عاشوا حياتهم فيها. خالي وديع هو من عاصرته في طفولتي، وهو الذي عزز فيّ حُب القراءة، فكان في كل زيارة له يحضر لي من فلسطين هدايا من الفضة، وكتبا باللغتين الانجليزية و العربية، غالبيتها روايات لجرجي زيدان، اليازجي وجبران خليل جبران. أما خالي الدكتور سليمان وزكي فلا أعرف عنهما إلا النزر اليسير. وفي يوم ذكرت والدتي نانسي بأن الكاتب أكرم زعيتر كتب عن اخيها الدكتور سليمان في صحيفة الدستور عام 1980. تواصلت مع رئيس تحريرها السيد مصطفى ريالات الذي عمل جهدا أقدره وأثمنه في الحصول على المقالة في الملفات الورقية. وجدت جزءا من شخصية خالي الدكتور سليمان في أخوالي سالم ووديعة ووالدتي: الاخلاص، والتفاني، ومحبة الناس – بلا حدود أحياناً. كنت من مدة، ولا أزال، أبحث عن معلومات عن الدكتور سليمان وزكي ووديع، وعن جدي سليم السماعين.

وقد أحببت إعادة مشاركة ما كتبه الأديب والسياسي القومي الأستاذ أكرم زعيتر عن خالي في صحيفة الدستور العدد رقم 4672 بتاريخ 9/8/1980، في مقالة عنوانها «الدكتور سليمان سليم جندي وطني مجهول»:

قرأت في «الدستور» نعياً في سطور، للدكتور سليمان سليم السماعين. صادراً عن مادبا. فوجمت قليلا وشحذت ذاكرتي: الدكتور سليمان سليم، هذا اسم ما اكثر ما تردد في خاطري، وورد في قديم يومياتي، وقد ظللت اعواما افتش عنه، وكنت قد لقيته قبل ثلاثين سنة ثم قرأت نعيه، ولكنني شككت بادىء الرأي في أن يكون صاحبي هو المنعي في تلك السطور، ذلك لانني عرفت اسمه غير مقترن بعشيرة السماعين.ولم اكن ادري انه من مأدبا. ولكن وصفا اطلقه عليه النعاة من اقربائه اشار الى سابقته الوطنيه.فايقنت انه هو هو.

واراني أعود اليوم الى لقائة في يومياتي وذكرياتي: في صحراء عوجا الحفير، حين ابعدنا اليه واعتقلنا فيه، كابدنا في اوائل ايام الاعتقال شحاً في الطعام وفقدانا للعلاج، ونقصا في الاغطية والفرش وانقطاعا كليا عن العالم.

قلت في يومية 23 مايس 1936 في عوجا الحفير: «جاءنا من بئر السبع اليوم طبيب صحتها الرسمي، واسمه الدكتور سليمان سليم. لقينا بحرارة وقال لنا: أنه جاء بهدف الاطمئنان الى صحتنا، ولبذل الجهد في خدمتنا. وقد حمل معه طعاما مطهوا في بيته، انفس ما يكون الطهو، فأكملنا اربعتنا: الشيخ صبري عابدين وممدوح السخن وقدري طوقان وانا، هانئين بعدما حرمنا 12 طعاما مطبوخا منذ جئنا العوجا قبل اسبوع.وهذا الدكتور الوطني المخلص حمل الي برقية من لجنة السيدات بالقدس مرسلة بواسطة اللجنة القومية في بئر السبع فيها تحية كريمة: «نفيكم زادنا ايمانا بقضيتنا. السيدات تفتخر بموقفكم المشرف». واعرب هذا الطبيب الوطني عن استعدادة – رغم كونه موظفا رسميا – لنقل الرسائل منا والينا، مهما تعرض للخطر. واكد لنا انه سيسخر وظيفته الرسمية للخدمة الوطنية وانه سوف يزورنا في الاسبوع ثلاث مرات ليكون في خدمتنا، وهمس في اذني: ان الاخوان في اللجنة القومية في بئر السبع طلبوا اليه ان يأتيهم مني برسالة بخطي، فحملته عدة رسائل وبيانات، وتجاوز كتابي الى اللجنة القومية في بئر السبع ست صفحات هي اشبه ببيان موجه الى الامه، تعهد الدكتور بوصوله اليها وحملها على نشره،(وقد فعلت) وكان للرسالة صداها وكان الفضل لهذا الطبيب الوطني حياه الله.

وأخذنا نستقبل قوافل المبعدين الذين انضموا الينا، وشرعنا ننظم امورنا، وطراز حياتنا، وألّفنا لجنة قومية، همها الاتصال بالحركة الوطنية، توجه وتحذر وتنذر، وتتصل عن طريق الصحراء بالاستاذ محمد علي الطاهر صاحب الشورى بالقاهرة لتسريب انباء الحركة واخبار المبعدين وبياناتهم في مصر وسائر الاقطار العربية. قلت في يومية 30 مايس 1936: «واقبل الدكتور سليمان سليم. ووجهه يطفح بشرا، وراح ينقل الينا اطيب الاخبار عن اشتداد المقاومة الوطنية، في طول البلاد وعرضها. ثم مالبث ان فتح حقيبته، واذا بها مليئة بالرسال والبرقيات والبيانات والصحف. ما اطيب هذا الرجل!! وقد سلمنا برقية من اللجنة القومية بنابلس مرسلة بواسطة اللجنة القومية ببئر السبع وهذا نصها: «مواطنوكم المجتمعون بدعوة من اللجنة القومية بنابلس للنظر في الاحوال الحاضرة يرسلون اليكم تحياتهم الحارة ويعتبرون نفيكم وساما من السلطة واعترافا منها بخدماتهكم لهذه الامة الابية». كما حمل الي الدكتور رسالة مطولة من شقيقي الاكبر عادل (نصها والرد عليها في يوميات اكرم زعيتر).

وبفضل الدكتور نعمنا بزاد وافر من اخبار المقاومة، ومن المشجعات ماكنا لننعم به لولاه. واذكر حين آذننا بالعودة مساء الى بئر السبع انني حملته كتابين تعهد بإيصالها (وقد فعل): اولهما الى اللجنة الوطنية بقرية (كفر كنا) وثانيهما الى اللجنة القومية بقرية (بلعا) لمناسبة استشهاد فتاة من القرية الاولى واستشهاد فتاة من القرية الثانية. فيهما تشديد عزائم، ومباركة تضحية وبشرى خلاص، كما تعهد بايصال رسالة الى اللجنة القومية بنابلس جرت تلاوتها على الأعضاء. وما لبث الدكتور بطريقته الخاصة وباسلوبه المحكم ان أمّن لنا وصول اجوبة عنها.

في 7 حزيران 1936 ورد في يوميتي: « ان أحد المسؤولين الانكليز الذين يرافقون قوافل المبعدين الى عوجا الحفير، حين شاهد ابتهاجنا بالقادمين «هز» رأسه وقال: «قريبا تنقلون الى معتقل اخر. صرفند تنتظركم.. الاكواخ والاسلاك تنتظركم… فاعتقدت ان انبثاق حركة من صحراء عوجا الحفير رغم تدابير الانكليز حملتهم على التفكير بنقلنا الى معتقل غير مفتوح. وقد رجوت الدكتور سليمان سليم ان يتحقق صحة ما سمعنا عن عزم السلطات على نقلنا، فجاء في اليوم التالي يؤكد لي الخبر ويستكملني اياه.وهنا قلت له (وكان ذلك في 14/6/1936): يا دكتور عندي محاضر جلسات اللجنة القومية والبيانات والقرارات والرسائل والمخابرات مع مصر والعراق وسورية ولبنان، والكثير منها انت نفسك سربتها الينا واخشى ونحن مقبلون على الانتقال الى معتقل صرفند ذي الاسلاك الشائكة ان يجري تفتيشنا وان تصادر اوراقنا، وهي هي على ما تعلم من اهمية وثائقية تاريخية، فابتسم وقال: «لايكن لك فكر، هاتها وانا احفظها امانة لدى محافظتي على روحي».

ونقلنا الى صرفند حيث قضيت في المعتقل اشهرا ثم وقف الاضراب والثورة وافرج عنا وكان منعلم من تحقيق اللجنة الملكية وتوصيتها بالتقسيم وعقد مؤتمر بلدوان. ثم مقتل «اندروز» فشردت من فلسطين. ولم اعد الى بلدي من المنفى الا بعد ثلاث عشرة سنة وبترحيب من المغفور له الملك عبد الله.

رحت يومئذ اسأل عن الدكتورسليمان سليم واتساءل: ترى ما فعل بالوثائق ؟هل احتفظ بها طول سني الحرب العالمية الثانية حين كانت تحصى الانفاس ام انه اتلفها خشية انتقام السلطة الانكليزية؟ وقيل لي: انه في رام الله. فبعث الية تحية مع صديق، فبادر الى نابلس. وفوجئت به يزورني في بيت شقيقي. لم اكد اعرفه لان راسه قد اشتعل شيبا، ولكن ابتسامته والبراءة في قسمات وجهه وطيبته، ظلت كما عهدتها. ثم اخرج من محفظته الاوراق والمحاضر قائلا: «الحمد لله لقد أديت الامانة بعد أن احتفظت بها أربعة عشرة عاما». وهذه الاوراق والمحاضر مدرجة في كتاب وثائق الحركة الوطنية وفي يوميات اكرم زعيتر وقد نشرتهما مؤسسة الدراسات الفلسطينية.

حزنت حين قرأت نعيه في الدستور ورثاء اخوته: وديع ونانسي ووديعة وآيه، ولكن لن تنطفىء لوعة اورثها اياي تقصيري في السؤال عنه ثلاثين عاما لاحييه، ولاقدم له اليوميات، وفيها ذكر له عرفانا لجميله.

تمجدت ذكرى الجندي المجهول: الدكتور سليمان سليم.

زر الذهاب إلى الأعلى