التنصت على الجواسيس ونواب الدولة العميقة
مصطفى أبو لبدة
إرم نيوز –
”عندما تكون في حالة عداء مع جهتين، ليس من الحكمة أن تعاملهما بنفس الطريقة لأنك ستدفعهما للتحالف“..
بهذه المقولة التي تنطبق على شتى أنواع الأزمات والأقاليم، أراد مستشار الأمن القومي الأسبق هنري كيسنجر أن يحذّر رئيسه جو بايدن من إساءة توظيف الأولويات فيما وصفه بأنه ”مرحلة جديدة مختلفة يعيشها العالم الآن“.
كان كيسنجر في ذلك يستذكر، بمناسبة مرور 50 عامًا على زيارته التاريخية إلى بكين، كيف استطاع فك التحالف الروسي الصيني، ولماذا عاد ذلك التحالف بترجيحات أنه هش، وغير مرشح للاستمرار في أعقاب أي تسوية تحصل لحرب أوكرانيا؟
وأدان بالتخطئ نظرية بايدن التي تقوم على بناء التحدي من فوق قاعدة تُقسّم العالم (ومنه بالتأكيد الشرق الأوسط) إلى أنظمة ديمقراطية مقابل ديكتاتورية، وهو أمر يراه كيسنجر غير عملي، حيث يُفترض أن تعترف واشنطن بتنوع الإيديولوجيات وترجماتها العملية.
وبموجب هكذا مبدأ، يتم تقييم أهمية القضايا والمواجهات عندما تنشأ.
”هذا هو النهج الأكثر عملياتية، ما لم يكن هدفنا هو تغيير بعض الأنظمة“، وهي مسألة باتت تتم بطريقة مختلفة عن السابق، نتيجة المستجدات التكنولوجية، وقساوة القدرة التدميرية للأسلحة الجديدة.
وتغيير الأنظمة، كما يقول، بات يفرض نفسه على الجميع بمن فيهم الولايات المتحدة، ولذلك من الأفضل ألا تقوم أمريكا باجتراح مثل هذه الرغبات السياسية.
وعن فهمه لشخص الرئيس الروسي، يقول كيسنجر إنه التقى فلاديمير بوتين بمعدل مرة كل سنة على امتداد 15 عامًا.
ونقطة الانطلاق في فكر بوتين هي ”نوعٌ من الإيمان الصوفي بالتاريخ الروسي، إيمان مشوب بمشاعر الإهانة.
إهانة سببها الفجوة الهائلة التي انفتحت مع أوروبا والشرق، ولذلك، نشأ لديه (بوتين) إحساس بالمهانة والخطر لأن بلاده كانت مهددة بالتوسع الاستيعابي من طرف حلف الناتو.
ويرى كيسنجر أن بوتين أخطأ في تقييم قدرات روسيا بالحفاظ على المشروع الكبير الذي يهجس هو به، ولذلك على الولايات المتحدة والغرب أن يأخذوا هذا الأمر بالاعتبار عندما يحين موعد التسوية.
ولن تعود الأمور والعلاقات السابقة، لأن روسيا ستكون روسيا مختلفة، ليس لأن الغرب هو الذي صنع هذا الوضع الجديد بل لأن الروس هم الذين فعلوا ذلك.
وعما إذا كان بوتين مُحصنًا بمعلومات جيّدة، ومناعة ضد الحسابات الخاطئة، يرى كيسنجر أن الأهم في هذا النوع من الأزمات هو أن يعرف المرء أو يحاول فهم ماهيّة الخط الأحمر لدى خصمه.
وعلى هذا الأساس، يصبح السؤال الأكبر هو: إلى متى يستمر هذا التصعيد في الحرب الأوكرانية، وما المجال المتاح لمزيد من التصعيد..؟ وعلى الأطراف ذات الصلة أن تقرر في أي نقطة سيؤدي تصعيد الحرب الى الإجهاد المجتمعي بالدرجة التي تحدّ من أهلية روسيا أن تبقى قوة عظمى في المستقبل.
ويقرّ أنه لا يعرف متى سيصل بوتين إلى هذه النقطة أو القناعة، لكنه عندما يصلها قد ينتقل إلى استخدام نوعية من الأسلحة لم يتم استخدامها مطلقًا خلال السنوات السبعين الماضية.
وعندما تتجاوز الأمور هذا الحاجز، سينشأ حدثٌ بالغ الأهمية، لأن العالم لم يمر بحالة مماثلة ليعرف كيف ستكون عليه خطوط التقسيم التالية. ويضيف: ”شيء واحد لا يمكننا اقترافه هو مجرد قبول مثل هذا الوضع الجديد“.
كيسنجر، على الأرجح، أكبر سياسي العالم سنًا، حيث ولد مثل هذه الأيام قبل 98 سنة (27 مايو 1923)، عُمره رُبع عمر الجمهورية الأمريكية، لكنه لا يزال متوقد الذهن والذاكرة، ويمتلك من تاريخه الأكاديمي ومشاركته الطويلة في إدارة الحرب العالمية الباردة من مواقعه في البيت الأبيض وأكنافه، ما يوجب الاستماع له، ويستأهل متعة قراءة النعوت والشتائم التي ما زالت تُلقى عليه ابتداءً من الدهاء، والمكر، والبراغماتية، وانتهاءً بالذين يندهشون وهم يكتشفون أنه ما زال حيًا، وما زال مفيدًا، فهو الذي كان رأيه أن ”الرجل عندما يشيخ لا تعود له وظيفة إلا المشاركة في المائدة“.
تستطيعُ أن ترمي عليه ما تشاء من النعوت وأنت تستحضر دوره في الإدارة الأمريكية لماراثون أزمات الشرق الأوسط (1969-1977)، وعندما كان مستشارًا لجورج بوش الابن في حربي أفغانستان والعراق.
لكنك ربما لن تستطيع مقاومة الحرص على سماعه وهو يتحدث الآن عن المشهد العالمي الجديد.. على الأقل لترى أين موقع الشرق الأوسط في خريطة القوى التي ستنتهي إليها تسوية الحرب الأوكرانية، عندما يحين موعدها.
في السابع من مايو الحالي، كان كيسنجر حاضرًا في الندوة الأسبوعية التي تعقدها صحيفة ”فايننشال تايمز“ البريطانية، تحت اسم ”احتفال نهاية الأسبوع بواشنطن“..
كان موضوع النقاش استذكارًا لمرور 50 سنة على زيارته إلى بكين، وما حصل من اختراق للحرب العالمية الباردة بفتح باب أمريكي في صين ماوتسي تونغ، أبعد الشقّة بين بكين وموسكو، ثم تقييم ما بقى من ذلك في المشهد العالمي الجديد.
مشاركة كيسنجر في الندوة، كانت لافتة، وأخذت اختصاراتها في مقابلة مع تلفزيون ”فايننشال تايمز“، لكن كاميرات الندوة خطفها مدير المخابرات الأمريكية وليام بيرنز (66 عامًا) الذي يوصف بأنه عميد الجواسيس في العالم، ووزير خارجية الظل في حكومة بايدن، وله مع الشرق الأوسط تاريخ حافل في العمل الدبلوماسي يغري بالتنصّت على الدبلوماسي عندما يبدّل ملابسه وعناوينه الرسمية.
ومن المُستخلصات المخابراتية والدبلوماسية التي عرضها بيرنز في الندوة (كأقوالٍ يأمل أن تصبح مأثورة) أن ”واحدة من فوائد التاريخ هي مساعدتك على تخيّل الحاضر الراهن بإضاءات مختلفة“، وقوله: ”المستقبل قطعي أكيد، فقط الماضي مختلفٌ عليه، أما الحاضر فهو المتاح لك لتحاول الإمساك به“.
في تشخيصه لمستجدات المشهد العالمي (انطلاقًا من حرب أوكرانيا)، يقول بيرنز إن ”بوتين يُجسّد بطريقة مزعجة للغاية كيف أن القوى العالمية المتراجعة يمكنها على الأقل أن تكون معطِّلة أو بنفس القدرة التخريبية التي تمتلكها القوى الصاعدة“.
ميزة حديث بيرنز (وهو الذي يصفه من عرفوه في الأردن عندما كان سفيرًا، بأنه مهذبٌ زيادة) أنه عمل طويلًا سفيرًا في موسكو، ويجيد اللغة الروسية، وتعامل مع بوتين والتقاه مكررًا.
وبهذه الخبرة، يصف بوتين بأنه ”يتمايل تحت وطأة مزيجٍ قابلٍ للاشتعال، من مشاعر المظلومية، والطموح، وانعدام الأمان، وكلّها ملفوفة مع بعضها.. شهيته للمخاطرة تنامت على مرّ السنين مع إحكام قبضته على السلطة، وأيضًا مع تضييق دائرة مستشاريه“.
ويعطي مدير المخابرات المركزية أهمية جزئية لاستخدام واشنطن لسلاح ”الاستخبارات الاستباقية“ وهي التي، كما يقول، أجبرت بوتين على إعادة برمجة توقعاته العسكرية..
وفي المقابل حصلت تغييرات في المزاج السياسي الأمريكي والغربي ليصبح أقرب للمهادنة: يمثّل فيه جو بايدن جناح البراغماتية الواقعية الذي قد لا يقبل لروسيا أن تخرج من الحرب مهزومة، لكنه مع الإصرار على إخضاع بوتين للمحاسبة الدولية.
كلاهما كيسنجر، وبيرنز، في نقاشات ندوة نهاية الأسبوع في واشنطن وفي الحديث مع ”فايننشال تايمز“ عن ”المشهد الدولي الجديد“ ، لم يشيرا بشيء إلى الشرق الأوسط.. كان ذلك لافتًا وبالذات بالنسبة لمخيّلة كيسنجر التي مازالت متوقدّة، وهو صاحب المقولة الشهيرة ”أنْ تكون عدوًا للولايات المتحدة مسألة خطرة، لكن صداقتها بالتأكيد مميتة“.