اللبنانيون بين “خريطة” مجلس الأمن الإنقاذية و”مناورة” نصرالله الحياتية
بقلم: فارس خشان

النشرة الدولية –

من حيث المبدأ، لا توجد سلطة في العالم أهم من سلطة مجلس الأمن الدولي، حيث تجتمع القوى العظمى تحت رايات الشرعية والقانون الدوليّين.

ولكن، من حيث الممارسة، لا توجد سلطة أوهن من سلطة هذا المجلس، بحيث تعمد دول وتنظيمات ضعيفة بالمقارنة مع قوّة الدول التي يتشكّل منها، إلى تمزيق ما يصدره من قرارات والسخرية ممّا يصدره من بيانات.

وهذا الواقع، تعرفه شعوب كثيرة في العالم، وتتلمّس نتائجه، ومن بين هذه الشعوب يبرز الشعب اللبناني، بطبيعة الحال.

وفي الخامس والعشرين من مايو الجاري، أصدر مجلس الأمن، بإجماع أعضائه، بياناً تضمّن “ورقة طريق” خاصة بلبنان، لمرحلة ما بعد الانتخابات النيابية التي كانت قد انتهت في الخامس عشر من هذا الشهر، ولكنّ غالبية اللبنانيين تصرّفوا معه كأنّه لم يكن، وركّزوا اهتمامهم على مضمون كلمة ألقاها، في مساء اليوم نفسه، الأمين العام ل”حزب الله” حسن نصرالله الذي وضع، بدوره، “ورقة طريق” خاصة بمرحلة ما بعد هذه الانتخابات.

نظرياً، قوّة “حزب الله” السياسية والعسكرية والمالية والأمنية والقانونية، لا قيمة لها، بالمقارنة مع القوة التي يتمتّع بها مجلس الأمن الدولي، ولكن، عملياً، فإنّ اللبنانيين، كما علّمتهم التجارب “من كيسهم”، يتعاطون مع “حزب الله” كقوّة واقعية، فيما يتعاطون مع مجلس الأمن الدولي كقوّة افتراضية.

واللبنانيون، في ما يذهبون إليه، لا يجانبون الحقيقة، وقد أصبحوا جزءاً لا يتجزّأ، من تيّار عالمي بدأ يدعو، بإلحاح، إلى إعادة النظر، في وضعية هيئة الأمم المتحدة عموماً ومجلس الأمن الدولي خصوصاً، بعدما ثبت أنّهما ليسا عاجزين عن حماية السلم والأمن الدوليين، فحسب بل عن فرض احترام ما يصدرانه من قرارات وبيانات أيضاً.

“ورقة الطريق” التي وضعها مجلس الأمن الدولي في بيانه الأخير للبنان، على الرغم من قوّة مضامينها وتلاقيها مع إرادة غالبية اللبنانيين، عجزت عن جذب الجدّية اللازمة، لأنّها تكرّر ما كان قد ورد في بيانات سابقة من دون إقرار آلية تنفيذية، سوى إفهام اللبنانيين أنّهم، في حال عدم الإلتزام، لن يحصلوا على المساعدة الدولية اللازمة لإخراجهم من الجحيم الذي جرى رميهم فيه.

وطالب بيان مجلس الأمن الأخير بوجوب تحقيق الآتي:

1-تنفيذ سياسات ملموسة للنأي بالنفس عن أيّ صراعات خارجية كأولوية مهمة، كما ورد في الإعلانات السابقة، ولا سيّما إعلان بعبدا للعام 2012.

2-تشكيل سريع لحكومة شاملة وتنفيذ عاجل للإصلاحات الملموسة المحددة مسبقاً(…) من شأنها أن تمكّن من إبرام سريع لاتفاق مع صندوق النقد الدولي، للإستجابة لمطالب اللبنانيين.

3-الانتهاء بسرعة من إجراء تحقيق مستقل ونزيه وشامل وشفاف في انفجارَي مرفأ بيروت.

4-التأكيد على الدعم القوي لاستقرار لبنان وأمنه وسلامة أراضيه وسيادته واستقلاله السياسي، بما يتفق مع قرارات مجلس الأمن 1701 (2006) و1680 (2006) و1559 (2004) و2591 (2021).

من يقرأ هذا البيان، يصرخ منتشياً مستعملاً تلك العبارة الفرنسية الشهيرة:” ماذا يريد الشعب ؟”

ولكن من يضع هذا البيان على “المشرحة” يكتشف الآتي:

مزّق “حزب الله” “إعلان بعبدا”، بعد أيّام قليلة على صدوره بإجماع اللبنانيين، ووجّه مقاتليه إلى سوريا، وخبرائه الى اليمن، بأمر من “الحرس الثوري الإيراني”.

شكّل اغتيال الرئيس رفيق الحريري النّهج الذي تمّ على أساسه التعامل مع القرار 1559، الأمر الذي ألغاه وسائر القرارت الدولية، شيئاً فشيئاً، من الأدبيات السياسية اللبنانية.

أحبط “حزب الله” التحقيقات في ملف تفجير مرفأ بيروت، ووجّه تهديدات الى المحقق العدلي “المغلولة يداه” طارق البيطار، ورشّح، بالتحالف مع “حركة أمل”، شخصيتين صدرت يحقهما مذكرتا توقيف في القضية، وأعادهما على “حصان أبيض” الى المجلس النيابي.

نقطة وحيدة يلتقي بها “حزب الله” مع بيان مجلس الأمن الدولي، وإن اختلفت أهدافهما، وهي “تشكيل حكومة شاملة للجميع”.

المجلس يريدها من أجل الإسراع في تنفيذ “الإصلاحات الملموسة المحددة مسبقاً التي من شأنها أن تمكّن من إبرام سريع لاتفاق مع صندوق النقد الدولي”، أمّا “حزب الله” فيريدها من أجل أن توفّر “غطاء شرعياً” لسلاحه الذي يتمسّك به ولتغطية الأدوار الإقليمية التي يقوم بها.

ولذلك، فإنّ “خريطة طريق” مجلس الأمن الدولي مرّت على اللبنانيين “مرور الكرام”، فيما انكبّ كثيرون على درس “الخريطة” التي قدّمها، في اليوم نفسه، الأمين العام ل”حزب الله” حسن نصرالله.

نصرالله واضح في ما يريده، وفي ما يُسخّره من القوّة التي يملكها من أجله، فهو يدعو “خصومه السياسيين” إلى “الشراكة والتعاون” على قاعدة توفير حاجات اللبنانيين، وإهمال كلّ المطالب المتّصلة بسلاحه، على اعتبار أنّه من قبيل “انعدام المسؤولية” الإلتهاء عن الخبز والكهرباء والدواء “بالحكي عن جنس الملائكة”، ومن قبيل “انعدام المنطق” عدم السعي الى قيام دولة والمحافظة على الجيش للحديث عن تسليم سلاح “حزب الله” لهما، وهو لا يمانع، في أقصى تنازل يقدّمه، في البحث في هذه المواضيع بالإضافة الى الإستراتيجية الدفاعية، على أن يصار الى تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه، وهذا يعني أنّ الإختلاف- وهو شبه حتمي-على المواضيع السيادية والسلاح والإستراتيجية الدفاعية، يفترض التسليم بوجوب وضعها جانباً.

إنّ نصر الله يسند خطابه الجديد دفاعاً عن هدفه المستدام إلى حقيقتين: الإنهيار المالي والإقتصادي والإجتماعي، واستعداده للدفاع عن سلاحه باستعمال سلاحه.

في المقابل، إنّ مجلس الأمن الدولي يركّز في أدبياته على أن لا مجال لإنقاذ لبنان إذا لم تقم فيه سلطة قادرة على الإمساك بزمام أمورها السيادية والإصلاحية، ولكنّه، في ذلك، لا يُقدّم للشعب اللبناني أيّ عون تنفيذي، في وجه قوّة “حزب الله” التي تحول دون تحقيق ذلك.

وهذا يعني، بالمحصّلة، أنّ اللبنانيين في مأزق وجودي كبير، فهم يملكون “وصفة الإنقاذ” لكنّهم يفتقدون الى القدرة على الحصول على الأدوات التنفيذيّة الصالحة.

ويقول المدافعون عن مجلس الأمن إنّ مشكلة الشعوب المعنية إيجاباً بقرارات المجلس وبياناته، تكمن في أنّها تطلب من الآخرين تنفيذ ما هو مطلوب منها، في حين أنّ المتضرّرين من “إصدارات” هذا المجلس يأخذون المبادرة لإحباط مفاعيلها.

وفي واقع الحال، إنّ القوى التي أفرزتها الانتخابات النيابية، ومنذ أن صدرت نتائج صناديق الإقتراع، لم تقدّم أيّ مبادرة، بل وجدها اللبنانيون تتلهّى بالإحتفالات، هنا وببذل الجهود لتحقيق مكاسب في الإستحقاقات الدستورية المقبلة، هناك.

ويفترض الواقع اللبناني المزري أن تتفاعل هذه القوى مع الطروحات التي يُقدّمها نصرالله، مستندة في ذلك، إلى البيان الذي أصدره مجلس الأمن الدولي، وتُفهمه أنّ حزبه، في حال لم يُدخل تعديلات جذرية على نهجه، يكون في وضعية من يتلهّى بالدفاع عن سلاحه مستخفّاً بسلّة اللبنانيين الغذائية، وبقيام الدولة.

حتى تاريخه، ومنذ انتهت الانتخابات النيابية، سجّل “حزب الله” انتصاراً في “الحرب الدعائية” على خصومه السياسيين في لبنان، على الرغم من وضوح الخطاب الأممي، ففيما يُظهر نفسه “متواضعاً” و”شريكاً” و”متعاوناً”، من موقع القوة والإقتدار كما يقول نصرالله، يَظهرون هم “متعالين” و”مخاصمين” و”مقاطعين”، من موقع الضعف والعجز، كما يظن سائر اللبنانيين.

ولا يتوقف “حزب الله” عن استغلال المأساة اللبنانية، في وقت ينكفئ خصومه عن الإستفادة من أدبيات “الشرعية الدولية” لتحميل هذا الحزب مسؤولية كبرى عن إيصال لبنان الى هذه المأساة.

إنّ المخرج الوحيد لوضع اللبنانيين أمام حقيقة ما يعانون منه يكون بإطلاق مبادرة بديلة لمبادرة نصرالله، تحمل العنوان الإنقاذي، وتُظهر، في حال عدم موافقته، أنّه، مستغلّاً إسم المبادرة، يُناور!

وحينها فقط تنقلب الأمور رأساً على عقب، فيتحوّل خطاب نصرالله، إذا لم يتغيّر، إلى خطاب “خشبي” وتصبح بيانات مجلس الأمن…حيوية!

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى