“قارئ الفنجان” مونودراما تبحث في أزمة تبعية العقل في العالم العربي
انتظارك للآخر المنقذ لا يمنحك الحياة التي تحلم بها
النشرة الدولية –
العرب – حنان مبروك –
يميل الكثير من العرب إلى تفسير الماضي والحاضر واستشراف المستقبل تفسيرا يخترق الغيبيات ويربط كل الحقائق بالميتافيزيقيا، فيتجهون إلى كل من يبيعهم وهما مقنعا تحت مسمى “قراءة الفنجان” الوهم الذي وجد منذ قرون آلاف المصدقين والمؤمنين بتوقعاته وتحليلاته، وعادة ما تمارس هذه الموهبة الفذة من قبل نساء.
وجسدت مسرحيات عربية كثيرة مثل هذه القصص، ورأينا نماذج منها في الأفلام والمسلسلات، إلا أن مسرحية “قارئ الفنجان”، العراقية-الجزائرية، اختارت أن تقدمها بشكل جديد، فالقارئ هنا لا ينظر إلى فنجان من القهوة ليفك الرموز والأشكال التي تتشكل في قعره ويستنتج منها أحداثا ويستحضر شخوصا قد يكون لها تأثير في حياة “شارب الفنجان” وإنما هو الممثل الواقف على خشبة المسرح والذي ينظر إلى الأحداث بماضيها وحاضرها ليستشرف مع الجمهور المستقبل الجماعي المشترك.
والعمل المسرحي للمخرج الجزائري نبيل مسعي وإنتاج جمعية الستار للإبداع المسرحي بالوادي، ويعود نص المسرحية للكاتب العراقي علي عبدالنبي الزيدي، تمثيل سمية بوناب، وسينوغرافيا أحمد لبيض وفي المراقبة التقنية ياسين مجيدي.
وتحاكي المسرحية قصة امرأة تنتظر حبيبها الغائب من أجل خلاصها من الواقع المكبّل بالمشاكل والأزمات، لكن هذا الحبيب لا وجود له كما، غائب ومغيّب، ويشكل غيابه خسارات متوالية لهذه المرأة التي تكتشف في نهاية الأمر أنها ضحية تفكيرها بعد أن جعلت مصيرها بيد أحد آخر غيرها.
هذا الحبيب، قد يكون صورة عن الآخر المنقذ، الآخر الذي كان ولا يزال على مر التاريخ العربي سببا في الدمار والخراب والضياع، آخر يأتي فيوهمنا بالحرية والديمقراطية والازدهار ثم يرحل فجأة ويتركنا ننهش بعضنا، نبكي خيبتنا وفشلنا وضياع ثرواتنا هدرا، نبكي عقلا لم يع يوما أن الإنسان لن يتغيّر واقعه إلا بما تفعله يداه، فهو يحتاج قبسا من نور خارجي بل إرادة ذاتية تصنع التغيير الحقيقي المنشود.
تشكو الممثلة على الخشبة الأزمات المتلاحقة في حياتها، والأفكار المتناسخة، فتتحرك مضطربة في إطار ضيّق، متحدثة حينا وراقصة حينا آخر، لكنها تغير “جلدها” وفق ما تستدعيه الحالة وتطورات النص المسرحي، فهي تبدل ثوبها فتنزع البياض والعفة لتدخل مرحلة من السواد والظلام الفكري، ثم تحاول التحرر معنويا من الصورة الظاهرية النمطية.
تتحرك الممثلة مستعينة بمؤثرات بصرية وألوان تنفعل وتشتعل بانفعال “الأنا” المخاطبة للجمهور، وبمؤثرات سمعية تراوحت بين موسيقى سريعة وعنيفة تعبر عن مدى اضطراب الشخصية في محاولة فهمها للواقع بناء على ما حصل في الماضي واستشراف ما يمكن وقوعه مستقبلا، وبين موسيقى ناي حزين، يئن مع أنين المرأة وهي تنتفض متنقلة بين أربعة أبواب أو ربما هي أربعة شبابيك، أو أربع حيوات ومسارات وافتراضات تحملها نحو الغد.
ومن هذه المسرحية المونودرامية، ندرك أننا لسنا بحاجة إلى الجلوس أمام قارئة فنجان كي نفهم الواقع من حولنا، فللإنسان على نفسه بصيرة، وقراءة الفنجان في زماننا لم تعد تسوّق للوهم بنجاح وإن امتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بصفحاتهم وانتشرت على موقع يوتيوب آلاف الفيديوهات لنساء ورجال يقرؤون فناجين لعشرات المتابعين عبر تقنية الفيديو.
كل إنسان عربي هو قارئ ماهر للفنجان، فنجان حياته الخاصة، ومسار بلاده، فهو يعي جيدا تاريخ وطنه ويتتبع الأخبار والأحداث في حاضره، وبإمكانه بقليل من الحكمة والوعي والإدراك أن يعلم إلى أن يسير، وكيف سيكون مستقبله.
“قارئ الفنجان” هذا النص المسرحي المشفّر والمنصهر في القضايا الإنسانية المعاصرة، هو واحد من نصوص علي عبدالنبي الزيدي، التي باتت علامة مسجلة في المسرح العربي، وتفتك جوائز سنويا من المهرجانات المسرحية التونسية، وهو ما حصل مع نصي آخر مسرحيتين كتبهما المؤلف العراقي في العامين الماضيين وهما “حرب العشر دقائق” و”كلب الست”، وهي نصوص تمزج السياسي بالفني، وتعتمد على كوميديا الموقف، وتولد من رحم الوجع العراقي لتكون صورة عن وجع عربي مشترك.
ويشتغل الزيدي منذ ما يقارب الثلاثة عقود على مشروع يتغير وفق الظروف السياسية في العراق، فهو يميل إلى أن يكون كاتباً يذهب إلى ما هو إنساني، وينطلق من محليّته إلى آفاق أبعد، وهو يتتبع المواضيع والمشكلات السائدة في كل زمان، مستمدا أفكاره من المشهد العراقي الصاخب بالأحداث المتسارعة والغريبة في الوقت نفسه.
ويقول المؤلف الزيدي إن نص مسرحية “قارئ الفنجان” على الرغم من أنه يناقش قضايا الوطن في الداخل والخارج وينطلق من منطلق اجتماعي إلى سياسي إلا أنه لا يبتعد عن الجانب الإنساني ويطرح سؤالاً مهماً عن واقع التغيير الذي حصل في العراق والخسارات التي تكبدها الناس.
ولأنه عمل جزائري-عراقي فقد كانت العربية لغته، ولم يصغ باللهجة العراقية، فكان من السهل فهمه وتقبله ولم لا عرضه مستقبلا أمام جمهور عربي متنوع، خاصة وأنه عمل مقتضب مقارنة بغيره، تأتي مساراته متسارعة ومتشابكة كما هو الواقع العربي.
وللإشارة، فإن مخرج المسرحية نبيل مسعي أحمد له العديد من الأعمال المسرحية من بينها “دكان السعادة”، وهي أوّل مسرحية قدّمها سنة 1988، ثم أخرج مسرحية “من الثورة” سنة 1996، إلى جانب تقديم العديد من الأعمال المشارك فيها كسينوغرافي، منها مسرحية “عودة درواس الحكيم”، “سطح وأبواب”، “الاغتيال”، بالإضافة إلى مسرحيات أخرى أبدع فيها، كما أشرف على إخراج عدة مسرحيات منها مسرحية “الحاج كلوف”، “الدوامة”، “بقايا مجنون”، “ظلّ الجنرال”.
وبعد مشاركة العرض المسرحي في مهرجان قرطاج الدولي للمونودراما في الفترة الممتدة من 13 إلى 16 مايو الجاري، وفوزه بجائزتين الأولى كانت جائزة أفضل عرض مسرحي والثانية جائزة أفضل نص مسرحي، عرض السبت، في فعاليات مهرجان قفصة العربي للفرجة الحية بمدينة قفصة في تونس.
واختير هذا العرض المونودرامي لتوفره على معايير فنية محددة ضمن شروط المشاركة في المسابقة والتي من أبرزها أن يندرج العرض ضمن مسرح الشارع الذي يصنع الفرجة بالإضافة إلى الشروط التقنية المحددة بالمستوى الفني العالي والطرح الفكري العميق إلى جانب الرؤية الإخراجية الراقية، مثلما أوضح رئيس الجمعية ومنتج ومخرج هذا العمل الفني المسرحي، نبيل مسعي أحمد.